غيب الموت ميخائيل غورباتشوف (1931 ــ 2022)، آخر زعيم سوفييتي، شغل الدنيا بالتحول الكبير الذي قاده في بلاده منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم. وفي نهاية المطاف، قادت هذه الإصلاحات- والتي عرفت بيريسترويكا (إعادة الهيكلة) وغلاسنوست (سياسة الانفتاح)- إلى انهيار الاتحاد السوفييتي بمكوناته المتعددة، وبرزت جمهوريات مستقلة كانت ضمن الاتحاد.

ستخلد ذكرى غورباتشوف، كقائد صنع الفارق في التاريخ، وكشخصية تراجيدية (بالمعنى الإغريقي للكلمة). كان غورباتشوف قائداً فذاً- معظم القيادات تقود وتخطط استراتيجياً، وتتبع تكتيكات لتحقيق هذه الاستراتيجيات. أما هو، فكان قائداً تحويلياً. يريد أن يغير ويهيئ لتغيرات كبيرة، ليس في الاتحاد السوفييتي، بل والعالم. فهو من أولئك القادة النوادر، والذين يطمحون إلى أكثر من قيادة بلادهم، يريدون أن يحدثوا تغيرات جذرية وعميقة في بنية الدولة والمجتمع. ثورة بمعنى الكلمة، ولكن ثورة سلمية، تسعى إلى تفادي ما هو أسواء.

كان خبراء السوفييت والأمريكيين يرددون أن وصول قيادة شابة إلى الحكم في الاتحاد السوفييتي، سيؤدي إلى تغيرات حقيقية. وقد جاء غورباتشوف بعد ثلاث شخصيات هرمت في السلطة- ليونيد بريجنيف، يوري أندروبوف، وقسطنطين تشيرنينكو- وقد بلغ من العمر أربعة وخمسين عاماً. صدق خبراء السوفييت، فابن الأربعة وخمسين ربيعاً، شرع في إصلاحات النظام المهترئ منذ زمن. أراد غورباتشوف- وهنا المأساة- أن يحدث ثورته من أعلى، لئلا تحدث من أسفل. كانت الأوضاع في الاتحاد السوفييتي تمر بأزمات داخلية وخارجية.

كانت البيروقراطية جاثمة على الاقتصاد والسياسة، تتحكم فيها أقلية مع الأجهزة الأمنية. والمواطن مسحوق، ولا يسمح النظام بالإبداع، ويواجه تنافساً دولياً شديداً، من نقيض أيديولوجي يتبع سياسة السوق المفتوحة والاقتصاد الحر والليبرالية السياسية. قفزت الولايات المتحدة قفزات كبيرة في الاقتصاد والتكنولوجيا والقوة العسكرية. بينما ظل السوفييت في محله، بل تقهقر وتراجع. كان مواطنو الاتحاد السوفييتي يتوقون للسفر إلى الغرب أو الهجرة. وبعض من أعضاء وفوده الرسمية، تنشق إذا ما وصلت إلى الغرب، مسحورة بتقدمه المادي وحرياته الواسعة.

تورط الاتحاد السوفييتي في حرب مع جماعات عقائدية في أفغانستان- البلد الذي لم تتمكن من اخضاعه، الإمبراطوريات، من بريطانيا والاتحاد السوفييتي، وآخرهم الولايات المتحدة. وقدم هذا الأخير كثيراً من المساعدات لـ «المقاتلين الأفغان»، بل تبنت واشنطن «القتال» ضد خصمها اللدود، الاتحاد السوفييتي. كان الأمريكيون يردون الصاع صاعين، لما فعلته موسكو في حرب أمريكا في فيتنام. حينها قدم الاتحاد السوفييتي والصين العون للثوار في جنوب فيتنام، والتي أخيراً انسحبت منها أمريكا، وأصبح لدى الأمريكيين ما عرف بعقدة فيتنام.

حمل سياسي ثقيل كانت موسكو تتحمله. حلف دفاعي مع دول أوروبا الشرقية (حلف وارسو)، لمواجهة دول الناتو. ومشروع سياسي لدعم الثورات والحركات الوطنية والاشتراكية في دول العالم النامي. مشروع دولي تَنُوءُ به الجبال. ولم يستطع الاتحاد السوفييتي أن يتحمل دعم المشروع السوفييتي المكلف، بالإضافة إلى حرب أفغانستان، والتي استنزفت الخزينة، فضلاً عن الرجال.

غامر غورباتشوف في سبيل الإصلاح. كانت فعلاً رمية نرد! أراد أن ينقل البلاد نقلة نوعية وجذرية. إما أن ينجح ويجنب بلاده كارثة، أو يفشل ويتحمل النتيجة. وخرج جني الإصلاح من قمم الحزب والدولة والأجهزة الأمنية. لم يستطع جهاز الدولة السيطرة على القوى التي أطلقها الإصلاح، والتي أصبحت عصية.

أصاب الاقتصاد كثير من العطب بسبب الانفتاح. وكثير من النخبة الحاكمة، استولت على قطاعات من الاقتصاد، بسبب تخصيص الاقتصاد، ونقله من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة، معظمها إلى من يشرف على العملية، وبثمن بخس. يقول أحد الكتاب إن غورباتشوف رام بإصلاحاته خلق «اشتراكية إنسانية». ولكن عندما رأى المواطن السوفييتي العالم الخارجي بسبب الانفتاح، أراد الاستهلاكية الغربية، وما عاد يشبع شغفه الإصلاحات البسيطة.

كان بإمكان غورباتشوف أن يقمع هذه الطموحات، كما كان يحصل في الاتحاد السوفييتي. كان بإمكانه أن يخطو خطوات الصين في الإصلاح الاقتصادي، دون الإصلاحات السياسية- حيث يظل الحزب الشيوعي مسيطراً على القوة السياسية، مع تحرير الاقتصاد.

لم يشأ غورباتشوف أن يقمع الطموح للشعوب السوفييتية، لكن أعضاء قيادته أبوا إلا أن يوقفوا عجلة الإصلاح. كان آخر لحظة في إنقاذ النظام، بمحاولة عزل القائد السوفييتي، والانقضاض على الإصلاحات السياسية. فشل الانقلاب، ونجى غورباتشوف، ولكن لم ينجُ الاتحاد السوفييتي. أعلن الرئيس غورباتشوف استقالته في ليلة عيد الميلاد المجيد 1991. وأزيل العلم السوفييتي ذو المطرقة والمنجل من الكرملين، ورفع العلم الروسي ذو الألوان الثلاثة. استقلت الجمهوريات السوفييتية، وأصبح الاتحاد السوفييتي من ماضي التاريخ.

نهاية تراجيدية لزعيم أراد الإصلاح بإخلاص، ولكن إرادة التاريخ (أو مكره كما يقول هيغل)، كانت أقوى. وصدق الشاعر حين قال: بالملحِ نُصلحْ ما نَخشى تغيُّره... فكيف بالملحِ إِن حلَّت بهِ الغِيرُ