آفة بعض الندوات والفعاليات وورش العمل وبعض الحوارات الفضائية في وطننا العربي الكبير أنها تنشغل بتشخيص الأمراض دون أن تقدم أي علاج حقيقي. والنتيجة أنها تصبح مجرد فقاعات بلا قيمة.
أكتب عن هذا الموضوع اليوم لأنني ألاحظ أنه يزيد ولا يقل. ورغم ذلك لا أعمم، لأن هناك العديد من الندوات والفعاليات تشهد نقاشات مهمة وتتيح حلولاً حقيقية للعديد من المشكلات والأزمات والقضايا. لكن اليوم أكتب عن الجانب الأول، لعل وعسى تشهد الظاهرة تراجعاً بدلاً من استفحالها.
قبل أسابيع ذهبت لحضور ندوة، منيت نفسي أن أخرج منها بأفكار جديدة للكتابة، لكني عدت حزيناً مكتئباً.
إذا ذهبت لندوة اقتصادية أتفاجأ أن بعض المتحدثين يعيد ويزيد في التحذير من خطورة أزمة البطالة، وكأنها آفة جديدة وليست ظاهرة يعاني منها العالم أجمع بدرجة أو بأخرى، لكن المتحدث لم يقدم أي اقتراح جديد لمعالجة الأزمة.
متحدث آخر كان يتكلم عن ضرورة تقوية الجنيه المصري في مواجهة العملات الأجنبية، وهو مطلب وأمنية لكل المصريين، لكن كيف نقوي هذا الجنيه؟ لم يقدم المتحدث أي رؤى أو خطط لذلك مكتفياً بسرد أن سعر الجنيه كان ذات زمن أقوى من الاسترليني والدولار والين والروبل والريال، وحينما كان هذا الجنيه يستطيع شراء 2 كيلوجرام لحمة ونصف. هذا الأمر ينطبق على ندوات كثيرة تعالج مشكلات العملات العربية المختلفة من أول الجنية السوداني إلى الليرتين السورية واللبنانية، وما بينهما من عملات تعرضت لضغوط كثيرة في السنوات الماضية!
نعرف جميعاً كل ذلك، لكن معظمنا لا يعرف ما هي أفضل طريقة لتقوية هذه العملات ومدها بالأكسجين وكل ما يجعلها قوية، طبعاً هناك من يقول إن زيادة الإنتاج هي المدخل الطبيعي لتقوية الاقتصاد، وهو قول صحيح تماماً، لكن كيف نزيد الإنتاج؟! هي قضية متشعبة ومتداخلة وتحتاج لعناصر كثيرة.
معظمنا في العالم العربي يتحدث ليل نهار عن ضرورة إصلاح التعليم كمدخل لإصلاح بقية مشكلات وأزمات المجتمعات العربية، لكن القليل منا، هو من يملك رؤى حقيقية لتحقيق ذلك. الحكومات المختلفة طوال عقود كانت تسعى لإصلاح مرفقي التعليم والصحة، وبقية المرافق والقطاعات، لكن كثيراً منا لم يسأل نفسه سؤالاً بسيطاً وهو: لماذا لم تنجح هذه الحكومات المتعاقبة في تحقيق ذلك بصورة كاملة؟!
الإجابة ببساطة هي قلة الموارد إضافة لعوامل أخرى منها قلة الخبراء والمتخصصين وبعض جوانب الفساد، وبالتالي فإن قلة من المتحدثين هي من تتكلم في سياق صحيح ومتكامل، بعيداً عن الرؤى المثالية التي تكتفي بشرح المشروح والتحليق في العموميات دون أن تقول للناس كيف سنحقق ذلك؟!
أحياناً يعيد بعض المتحدثين كلاماً وتعبيرات وفقرات كاملة من حديث آخرين في القضية نفسها دون أن يكلفوا أنفسهم مذاكرة القضية التي ينوون الحديث فيها، وبالتالي تأتي رؤاهم مكررة وروتينية. وذات يوم سمعت شخصاً يتحدث، في العموميات ثم يقول إن العالم مقدم على أزمة مناخ، وهو لا يدري أن العالم غارق في هذه الأزمة منذ عقود طويلة، وعقد مئات القمم والاجتماعات والندوات لمواجهة الظاهرة، بل إن آثار الأزمة صارت واضحة الآن للجميع من أول الحرائق وندرة الأمطار وصولاً إلى تراجع المحاصيل والظواهر المناخية الغريبة.
الاستمرار في هذا التشخيص دون تقديم علاج حقيقي سيقود إلى مجموعة من الظواهر الخطيرة، أولها أن الجمهور المتلقي سوف يصاب بالسطحية ولن يكون قادراً على التفريق بين الرؤى والأفكار المختلفة وسيردد كل ما يقال له.
ثانياً: إن صناع القرار سوف يفتقدون منابر كان يمكن أن تقدم لهم أفكاراً ورؤى وخططاً ربما يمكن تنفيذ بعضها على أرض الواقع.
ثالثاً: إن هؤلاء المتحدثين أو الخبراء أو المعلقين سوف يصابون بالصدأ بعد فترة وجيزة، لأنهم لا يكلفون أنفسهم عناء قراءة ومراجعة القضية التي سوف يتحدثون فيها، حتى تكون لديهم رؤى وأفكار طازجة. والنتيجة النهائية هي أن المجتمع بأكمله سوف يخسر، خصوصاً أنه سوف يكتشف إن آجلاً أو عاجلاً أن نخبته قد صارت متكلسة. مرة أخرى لا أعمم، ولا أقول إن ذلك هو حال كل المجتمعات العربية، فهناك خبراء ومتحدثون على أعلى مستوى واستفيد منهم كلما استمعت إليهم أو شاهدتهم، لكن الفئة الأخرى بدأت تنتشر والأخطر أن بعض الجماهير على وسائل التواصل الاجتماعي صارت تتابعهم وتتعامل معهم باعتبارهم خبراء لا يشق لهم غبار! نحتاج كل العقول الذكية والطازجة حتى تنير لنا الطريق نحو مستقبل عربي أفضل.