إن المفهوم الشامل لجودة الحياة ينطلق من رؤية واضحة، ترتكز على ربط جهود التنمية والتحديث العالميين بتعزيز جودة حياة الأفراد والمجتمع، ومن هنا يظهر جلياً الاهتمام المتنامي عالمياً بأهمية الصحة الجيدة في تعزيز جودة حياة الإنسان.
ومن المعروف أن القطاع الصحي هو أكثر القطاعات ارتباطاً بالأفراد وجودة حياتهم، والعلاقة بينهما مرتبطة ومتوازية في الوقت نفسه، إذ تؤثر الصحة على جودة الحياة، فيما في المقابل تؤثر جودة الحياة على الصحة بشكل عام.
ولهذا شهدنا أن العالم وجه اهتمامه لترسيخ مفهوم العافية بشتى مفاهيمها، وربطها عملياً بجودة الحياة، وهذا أسهم في نشوء قطاعات اقتصادية جديدة، أهمها «صناعة العافية»، والتي تقدر قيمتها عالمياً بـ 4.5 تريليونات دولار، وتتوزع على مجالات عدة منها: العناية الشخصية والجمال ومكافحة الشيخوخة والأكل الصحي والتغذية وإدارة الوزن والسياحة الصحية واللياقة البدنية والعقلية، وجودة الحياة في بيئة العمل.
تعرف منظمة الصحة العالمية العافية على أنها «الحالة التي يحقق فيها الفرد قدراته الذاتية، ويستطيع مواكبة ضغوط الحياة العادية، ويكون قادراً على العمل الإيجابي والمثمر، ويمكنه الإسهام في مجتمعه».
وتتكامل الصحة الجسدية بالصحة النفسية بتفاعل تبادلي، فعلى الدوام يكون العقل السليم في الجسم السليم.
والعافية بأركانها المتعددة تشمل: العافية الجسدية وتعني الجسم السليم، والعافية النفسية والعقلية، ونقصد بها ألا يكون الإنسان عرضة للقلق والهموم وأن يكون باله خالياً قدر الإمكان، وهي التي تحافظ على توازن الإنسان الجسدي والفكري، والعافية العاطفية التي تجعل الإنسان أكثر إنسانية ورحمة وشفقة بالآخرين، والعافية الروحية هي التي تربط الإنسان بمعتقداته ومسلماته الوجودية وتروض نفسيته، لتصبح أكثر شفافية وإدراكاً، أما العافية الاجتماعية فهي التي تساعد الإنسان على بناء أواصر متينة مع جميع من يتعامل معهم أو يحيطون به، وأخيراً العافية البيئية، وتشمل المحافظة على البيئة من التلوثات، واستغلال المحيط العام للترويح عن النفس والعيش في بيئة أمنة سليمة خالية من المنغصات.
كل هذا من أجل أن يصل الإنسان، وبالتالي الحكومات إلى أعلى مستوى من الجاهزية، خصوصاً بعد خوض تجربة كورونا المريرة، وما تسببت من خسائر فادحة ليس فقط بسبب شراسة الجائحة وسرعة انتشارها، بل بسبب عدم جاهزية الدول بشكل عام، والأفراد بشكل خاص للتصدي لمثل تلك الظروف الصعبة.
ومن هنا يتكاتف العالم لتكريس عالم تكون الصحة وجودة الحياة صنوين لا يفترقان، من خلال التركيز على أهمية الصحة النفسية، وتعزيز أسلوب الحياة الصحي والنشط، وتصميم المدن لحياة صحية مديدة، ونشوء قطاعات اقتصادية جديدة تعنى بالصحة وبجودة الحياة في الوقت نفسه كمراكز اللياقة والتمارين، وتخطيط مدن عصرية فيها شواطئ وأماكن ترفيهية عصرية، تساعد الإنسان على أن يستعيد تركيزه وتوازنه، والأهم من هذا كله أن تكون الحكومات والأفراد على حد سواء جاهزة لمواجهة أي طارئ.
وتعد دولة الإمارات العربية المتحدة من أكثر وأول الدول اهتماماً بالمفهوم الشامل لجودة الحياة منطلقة من رؤية قيادية واضحة، ركزت على ربط جهود التنمية المستدامة والتطوير الحكومي المستمر بتعزيز جودة حياة الأفراد والمجتمع، ودائماً ما وضعت الدولة الإنسان الهدف والغاية على الدوام، أما جاهزيتها من جميع النواحي فهي متميزة على الدوام.
ونرى حالياً العديد من الدول خصوصاً الدول الإسكندنافية، والتي أوجدت بيئة مثالية، تتجانس فيها الصحة والعافية مع جودة الحياة، ولكن يظل التحدي قائماً على مستوى العالم للتحول من الرعاية إلى الوقاية، لأن تعزيز جودة الحياة لا يقع على عاتق المؤسسات والأجهزة الصحية فقط، بل هو مسؤولية مشتركة لجميع القطاعات والجهات الحكومية، لتحقيق هدف واحد، يتمثل بتوفير أفضل مستويات الصحة وجودة الحياة للمجتمعات، حيث إنه من المعروف أن النسبة الكبرى من الإنفاق الصحي للحكومات بشكل عام على مستوى العالم تذهب للخدمات الطبية والعلاجية، رغم أنه هناك فرصة لتجنب ذلك الكم الهائل من الإنفاق لو تغيرت بعض السلوكيات وأسلوب الحياة لدى البعض، لأن التحدي ليس في تقديم خدمات صحية وعلاجية، ولكن في تغيير ثقافة وأسلوب حياة الأفراد، فمستوى «جودة حياة الأفراد» يشمل التركيز على تعزيز أسلوب حياة صحي، يتمتع فيه الأفراد بصحة جسدية ونمط عيش نشط وخيارات تغذية صحية على امتداد المراحل المختلفة لحياتهم، وبصحة نفسية جيدة، ويتحلون بمهارات الحياة وبتفكير ومشاعر إيجابية وحياة سعيدة متوازنة هادفة ذات معنى.