الحديث عن الاستقطاب في الولايات المتحدة، حديث ذو شجون.
وهناك ما صنع الحداد بين الفرقاء السياسيين. وهو الاختلاف السياسي في الولايات المتحدة، وهو قديم قدم الجمهورية. ولكن كانت هناك قيم تجمعهم. فعلى سبيل المثال، في استطلاع مركز لبيو للأبحاث، فإن ثمانية من عشرة مسجلين للتصويت، يعتقدون أن الفرق بينهم وبين خصومهم ليس خلافاً حول السياسات، بل حول القيم الأمريكية الأساسية. وتسعة من عشرة يعتقدون أن فوز المعسكر الآخر سيضر بالمصلحة الأمريكية.
يقول كاتبان أمريكيان: إن الاستقطاب في الولايات المتحدة فريد وعميق، وبعكس معظم الديمقراطيات، فإن الاستقطاب في أمريكا متعدد الأوجه. الديمقراطيات الأخرى تعاني من الاستقطاب، إما العرقي أو الديني أو الأيديولوجي. ولكن الولايات المتحدة تعاني من الثلاثة كلها.
ويُرجع الكاتبان أصول الاستقطاب إلى الصراعات التي شهدتها الولايات المتحدة في الستينيات من القرن المنصرم. فقد شهد ذلكما العقدان صراعاً أيديولوجيا بين التقدميين والمحافظين حول قضايا الإجهاض، والحقوق المدنية للسود، والصلاة في المدارس، وحقوق المرأة، والحق في تحديد النسل، وما إلى ذلك من الحريات المدنية.
تلك قضايا تعكس روح أمريكا، وما معنى أن تكون أمريكياً. فالقضية قضية هوية، وقيم تعكس تلك الهوية. ولكنها غير مستقرة. فكما قال أحدهم في سياق الاحتفاء باستقلال الولايات المتحدة، إن أمريكا ليست من معين واحد، ولا دين واحد، ولا عرق واحد. وليس هناك إجماع كامل. أمريكا جدل مستمر، وخلاف حول الهويات مجتمعة. وقالت زميلة في نفس البرنامج: إن الولايات المتحدة مشروع مستمر في طور الإنشاء، وسيظل الجدل حوله قائماً!
الإشكالية تكمن في النظام الليبرالي (بالمعنى الكلاسيكي)، والذي يمثل الأسس الفلسفية التي يقوم عليها النظام السياسي. فالليبرالية تمثل تطوراً نحو الحرية لا يحدها شيء، وليس لها نهاية أو سقف. فإذا ما ارتأت الأغلبية سلوك درب يزيد من الحريات المدنية، فإنها تلزم البقية، والتي تريد المحافظة على إرث معين، أو سلوك مختلف.
وحينها تكون ردة الفعل حادة من قبل الطرف المستاء من هذه التطورات. وما إن تؤول الغلبة لهذا الطرف، إلا وقلب ما تحقق للطرف الآخر، وهكذا دواليك. وينتج عن هذا التجاذب، استقطاب عاتٍ لجهة هزيمة مشروع الآخر، وليس إنشاء منطقة وسطى للحكومة السياسية.
ولم تكن الليبرالية مسؤولة عن هذا التشظي السياسي فحسب، ولكن الاستقطاب الاقتصادي، نتيجة لليبرالية الاقتصادية غير المقننة. عالمة الاجتماع الأمريكية، إليزابيث بيرمان، تقول: إن علم الاقتصاد أصبح يتحكم في السياسات العامة، والذي جعل من الفاعلية الاقتصادية أهم من المساواة.
وأصبحت النيوليبرالية الاقتصادية- أو ما عرف بإجماع واشنطن- هي البوصلة للسياسات الاقتصادية. بمعنى آخر، أصبحت معالجة قضايا الاقتصاد، معالجة «علمية» خاوية من أي اعتبارات اجتماعية أو سياسية، ما فاقم التفاوت بين الدخول. وأصبحت هذه السياسات، تجر إلى عدم المساواة في الدخول، والتي هي من الأسباب للانقسامات الحادة. فعلى سبيل المثال، فإن الاستطلاعات تشير إلى أن %20 من السكان استحوذوا على ما يزيد من نصف الدخل، والذي جعل الولايات المتحدة من أكثر الدول التي فيها تفاوت في الدخل بين مجموعة السبع الاقتصادية.
ماذا سيجر هذا الاستقطاب على الولايات المتحدة؟ حديث مهم، خاصة أن الولايات المتحدة مقبلة على الانتخابات النصفية لمجلسي الكونغرس (الشيوخ والنواب)، في نوفمبر القادم. هل ستسفر هذه الانتخابات عن مجموعة وسطية تقدم مصالح الولايات المتحدة على المصالح الحزبية الضيقة.
الحملة الانتخابية الجارية حالياً لا تبشر بخير على الولايات المتحدة. فمعظم المرشحين يعزفون على المقطوعات القديمة، بحشرجة شديدة الإزعاج، وبأنغام غير منسجمة. لعل جيلاً جديداً من الأمريكيين سيظهر من أتون هذا الاستقطاب، وسيصوب مسار السفينة السياسية. قدرة أمريكا على تصحيح الذات، عجيبة، وسنرى إذا ما ستسفر عن مسار مستحدث.
فيا دارها بالخيف إن مزارها... قريب ولكن دون ذلك أهوال!
* كاتب وأكاديمي