«تكلفة الجهل»! ما زالت العبارة ترن في أذني وتدق في عقلي وقلبي.

قالها معالي محمد بن عبدالله القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء، نائب رئيس مجلس الأمناء العضو المنتدب لمؤسسة دبي للمستقبل، في لقائه قبل أيام مع المشاركين في «منتدى الإعلام العربي»، وذلك في احتفالية رائعة أقيمت في «متحف المستقبل».

حديث محمد القرقاوي أمام الحضور كان حديثاً من القلب والعقل، لذلك اخترق العقل واستقر في القلب. تحدث معاليه بكل شفافية وصراحة عن الكثير: سياسة وبناء واقتصاد ومستقبل وتفاؤل وقصة نجاح دبي وصعودها، ودور الفكر الكامن في قلب وعقل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله» في الانطلاق نحو الريادة بفكر وفلسفة دون الالتفات للوراء.

وتحدث عن الدول العربية، والمسارات المختلفة، وما يقال عن منافسة مع السعودية مؤكداً أن نجاح السعودية هو نجاح للإمارات. وهذا منطق العقلاء والأذكياء والراغبين في البناء لا الهدم، والتقدم للأمام لا التقهقر للخلف، والتعليم والتثقيف والتنوير لا الغرق في مستنقعات الجهل. ومن هنا تستمد عبارة «تكلفة الجهل» معناها العميق ودلالاتها الكثيرة.

النظر صوب المستقبل وصالح الأوطان وطموح الشعوب دون إغراق في الماضي أو إفراط في أفكار خيالية صارت حكراً على كتب الخيال غير العلمي مع وضوح الرؤية وتحديد الأهداف وسن الخطط وتوفير الأدوات هي الخلطة الفعلية – وليست السحرية - للمستقبل. ومستقبل بلا جهل هو الضامن لاستدامة الجهود والإنجازات.

فالجهل خصيم العلم، وعدو التنوير، والمناوئ الأكبر لتحكيم العقل وترجيح كفة المنطق. والجهل لم يعد عدم إلمام بمبادئ القراءة والكتابة أو أمية أبجدية، رغم وجود كليهما للأسف بنسبة ليست قليلة في المنطقة العربية.

لكن سفاهة رفض المنطق وتشويه تحكيم العقل والإمساك بتلابيب الماضي مع كراهية الحاضر ونبذ المستقبل جهل، والتشكك اللاإرادي في كل ما هو جديد وحديث، وتسييد الفكر التآمري، ونثر ونشر كل ما من شأنه أن ينشر التشكك وعدم الثقة وانعدام اليقين بين الجماهير جهل.

كذلك مقاومة التغيير الذي هو سنة الحياة، والاكتفاء بزاوية واحدة من المشهد متعدد الزوايا، والإصرار على فهم الدنيا من بعد وحيد رغم أنها ثلاثية الأبعاد، جهل.

والإصرار على إدارة المجتمعات بالأساليب التي نجحت قبل مئة أو 200 أو 300 عام، وفرض الوصاية الفكرية على الناس وإعلان الحرب على البحث والتفكير والإبداع، جهل.

والاعتقاد بأنه ما زال في الإمكان أن يعيش البشر والمجتمعات والدول في جزر منعزلة عن محيطهم، أو أن على الدول أن تنحاز إما إلى قوة عظمى ألف أو قوة عظمى باء وإلا تم تصنيفها عدواً، أو أن هدف استقلالية القرار وحيادية الاتجاه ليس خياراً أيضاً جهل.

الجهل أنواع كثيرة، أقلها الجهل بقواعد القراءة والكتابة أو حتى بأساسيات العصر الرقمي، رغم فداحتهما. لكن جهل مناصبة العقل العداء، وإعلاء شأن العناد، والسير عكس اتجاه المنطق تكلفته فادحة وباهظة وربما لا يمكن سدادها من الأصل.

الأصل في الأشياء هو المنطق. وقد عانت المنطقة العربية كثيراً من علاقة ملتبسة مع المنطق، تارة تحت مسميات تتعلق بخصوصية ثقافية، وأخرى خوفاً من التحديث وتحسباً من كلفة النظر صوب المستقبل، وثالثة لأسباب غير مفهومة ربما يتعلق بعضها بالتشبث بأفكار وأحلام لم يعد لها محل من الإعراب والتفعيل.

المنطقة العربية بأكملها صارت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما النظر صوب الأمام والمضي قدماً بمعايير العصر ومفاهيم العلم مع الحفاظ على الهوية، أو الاستسلام للرمال المتحركة تحت مسميات مختلفة.

الكوكب كله في مرحلة تغير جذري. السياسة ومن ثم الاقتصاد (أو العكس) في حالة تحول عميق ولم تصل إلى وضع مستقر بعد. والعالم العربي ليس بمعزل عن بقية الكوكب. حتى الدول الرافضة للتغيير أو المقاومة لما يجري حولها لن تسلم من آثار ما يجري.

لذا فإن المنطق والعقل والحكمة تخبرنا ألّا نسير مع التيار، بل نسبقه، فهذا ما يضمن لنا أن نضع قواعدنا ونراعي مصالحنا، بدلاً من أن نتعايش مع ما يفرضه التغيير أو تمتثل لما يضعه من يسبقوننا في عجلة التغيير.

وأعود إلى ما قاله معالي محمد بن عبدالله القرقاوي في لقائه مع المشاركين في «منتدى الإعلام العربي». ويمكن القول إن كل ما ذكره وسرده بمنتهى الأمانة والشفافية يصب في خانة الذهاب إلى المستقبل بدلاً من انتظاره. وهذا الذهاب الذي أشار إليه ليس ذهاباً عشوائياً أو قراراً من وحي اللحظة.

الأمم التي تقرر الذهاب صوب المستقبل، متسلحة برؤية وعلم وابتكار وإبداع ومنطق وواقعية على أرضية رصينة من الهوية، هي الأمم التي تعرف جيداً تكلفة الجهل الباهظة. وقانا الله شرور الجهل، وأنعم علينا بالبصيرة الثاقبة والرؤية المنطقية والمستقبل الذي نذهب إليه قبل أن يأتي إلينا.

 

* كاتبة صحافية مصرية