ينظر إلى القراءة بوصفها أهم وسيلة تثقيف على الإطلاق، فالقراءة هي المصدر الأهم للمعرفة والمتعة والعلم وتغير الوعي.
ولقد وفر الإنترنت للقراء ثروة ضخمة من المكتوب في كل مجالات المعرفة والأدب والفلسفة والنقد وهكذا. وقد أعطى علم النقد للقراءة معنى عظيماً حين عرفها بأنها كتابة جديدة للنص.
هذا الأمر البدهي، الذي لا اختلاف فيه، يحتاج إلى مناقشة وبخاصة حال القراءة في بلاد العرب.
دعك عن ضعف القراءة، ومحدودية انتشار الكتاب، ولست في وارد الحديث عن أسباب ذلك المعروفة، حديثي ينصب على واقع القراءة في الحال الراهنة ليس إلا.
فالقراءة في بلاد العرب كانت وما زالت مترابطة في مجملها مع التحزب والانتماء الأيديولوجي والسياسي، فالقراءة بهذا المعنى ليست إلا وسيلة لتأكيد ما هو مسبق في الذهن.
فالعلماني لا يقرأ إلا ما يوافق موقفه، فلا يكاد يعرف شيئاً عما يكتبه وكتبه أصحاب الاتجاه اللاهوتي. واللاهوتي لا يطلع إلا على ما وافق معتقده، فلا يقرأ لأحد من أصحاب الاتجاهات الأخرى، وهو لا يعرف إلا بعض الأسماء التي يعتبرها ضالة دون أن ينظر في كتاب أحد من هؤلاء. وقد جاء حين من الدهر لم يقرأ الشيوعي إلا الكتب الماركسية العربية أو المترجمة عن الروسية، وهكذا. فلا يدري أحد عن أحد شيئاً، ولا يطلع تيار على تيار آخر، حتى في الأدب والشعر والرواية.
ترى إذا كان كل قارئ يقيم حدوداً وأسواراً، حول عقله، ولا يحشوه إلا بما وافق فكره أو أيديولوجيته أو موقفه السياسي، فكيف سيتعرف الناس على بعضهم البعض.على اختلافهم واتفاقهم، كيف لهم أن يتزودوا بما لا يعرفون.
كيف سيجري الحوار بين المختلفين إذا كان المختلفون يجهلون بعضهم البعض، ولديهم مواقف مسبقة مطلقة والإيمان بالحوار بين المختلفين يتطلب الاعتراف بحق الاختلاف.
إذا كنت تقف موقفاً مسبقاً من المكتوب، ومن هوية الكاتب، فكيف ستعرف نقاط الاختلاف معه؟
والحق أن وراء التحصن هذا عقلية نفي الآخر المختلف، فالآخر غير موجود بالنسبة لكل طرف. لكن الآخر موجود واقعياً، فهل يكفي إنكار وجوده ليكون غير موجود؟
هل إذا رفضت قراءة المختلف معه يكون المختلف هذا عدماً؟!
المعرفة قوة، والمعرفة الشاملة قوة أشمل وأكبر. بل إنه كلما صار الإنسان مليئاً بالأفكار المختلفة والمتنوعة، صار متسامحاً أكثر مع من يختلف معهم.
هذا لا يعني أننا نقرأ كي نتشابه، بل إن مصادفة واحدة قادرة على أن تغير الوعي إلى الحد الذي يحقق قطيعة مع وعي ماضٍ. لقد نقلت قراءة محمود أمين العالم لكتاب إنجلز (ديالكتيك الطبيعة) من الفلسفة الوجودية إلى الماركسية، وقس على ذلك.
وهناك ظاهرة تفشت بفعل وسائل التواصل الاجتماعي ألا وهي ظاهرة القراءة الموتورة. والقراءة الموتورة هي نمط من مواقف وآراء قراء مما يكتب على هذه الوسائل والتعليق عليها بلغة الشتيمة والاعتداء اللفظي على الكاتب دون أي رادع أخلاقي. ولهذا يمكن القول: إن القراءة الموتورة ليست قراءة إطلاقاً، وإنما هي نمط من المشاجرة بالكلام.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني