خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية منهكة، مدمرة، ورغم أنها خاضتها وانتصرت فيها بالتحالف مع موسكو إلا أنها أصيبت في نهايتها، برهاب القوة السوفييتية، ورأت أنه ليس بمقدورها مواجهة الحليف السابق.

وكان هنا، وينستون تشرتشل، الذي لا يرى بريطانيا إلا قائدة لأوروبا، أفزعه أن تواصل بلدان القارة العجوز تحالفها مع موسكو في فترة ما بعد الحرب، فلم يجد بداً من الاستعانة بالولايات المتحدة.

وعملياً، فإن ما تم فعله حينذاك كان بالمعنى الحرفي، عملية استدعاء الولايات المتحدة إلى العالم القديم، وتفويضها بقيادة أوروبا، وتنصيبها قوة عالمية كبرى، تواجه الاتحاد السوفييتي.

ومنذ ذلك الحين خسرت أوروبا فرصتها في صياغة نظام دولي جديد، يحمل هويتها الحضارية، وتكون فيه سيدة، وقبلت أن تكون مجرد دول صناعية كبرى، تنضوي تحت جناح القوة الأمريكية العظمى، واكتفت بتبني قيم أخلاقية، تقوم على «الحقوق» و«الحريات»، والتقدم العلمي والتكنولوجي، والصناعة.

ومع ذلك، تابعت الولايات المتحدة وبريطانيا بقلق، على مدار العقد الماضي، تحول «الاتحاد الأوروبي» إلى منظومة فاعلة في النظام الدولي، تكتسب هامش استقلالية نسبية، على نحو متزايد، وتظهر ميلاً نحو بناء علاقات تعاون وشراكة مع روسيا.

وبالنسبة لبريطانيا، كان من المفزع رؤية «الاتحاد الأوروبي»، وقد تحول إلى منصة لتظهير ألمانيا قائدة للقارة العجوز، بما يقتضيه ذلك من تهميش لدورها ولحلف «الناتو»، الذي يضمن قيادة أمريكية لأوروبا، تراعي لندن.

وهكذا، رأينا بريطانيا تنسحب من «الاتحاد الأوروبي»، مع تأكيدها على أولوية «الناتو»، ناظماً للعلاقات الأوروبية الأمريكية، والعلاقات الأوروبية الأوروبية، وتزامن ذلك، من الجانب الأمريكي، مع اتهامات لأوروبا، بأنها لا تساهم بما يكفي في ميزانية «الأطلسي»، وترافق مع تعريض صناعاتها للحمائية الأمريكية، ومحاولات حملها على التخلي عن الغاز الروسي الرخيص، الذي يزيد من تنافسيتها في السوق الأمريكية.

في خضم ذلك، برز تباين أمريكي روسي ملفت؛ كانت روسيا تتوجس من «الناتو»، وتنظر بإيجابية إلى «الاتحاد الأوروبي»، ومن جانبها، كانت واشنطن تظهر ضيقاً بـ«الاتحاد الأوروبي»، مقابل تمسكها بـ«الناتو».

ما يحدث اليوم، هو أن واشنطن تقطع الطريق على أي شراكة روسية أوروبية، باستخدام ورقة «كييف»، وبذا، اندلعت الحرب في أوكرانيا، وتورطت أوروبا فيها وبالمشاركة في حرب العقوبات على موسكو، التي كان من أول نتائجها حرمان الصناعة والاقتصاد الأوروبيين من الغاز الروسي، وبالتالي، من أهم ميزاتهما التنافسية.

(والآن، تبيع الولايات المتحدة الغاز لأوروبا بأربعة أضعاف السعر، الذي تبيعه به إلى قطاعها الصناعي!).

قبل ذلك تورطت أوروبا، وراء «ديمقراطيي» أمريكا، بالأحداث العربية، التي سميت بـ«الربيع العربي»، وهللت لقوى ظلامية تصدرت مشهد هذه الأحداث، ثم لما جاءها فيض اللجوء، وسيول البشر الهاربين من بلدانهم، تعاملت معهم بأساليب لا تنسجم مع القيم الأخلاقية التي كانت تنادي بها، وتضغط على دول العالم أن تراعيها وتتبناها.

وهي، اليوم، في سياق الأزمة الأوكرانية، تفعل الشيء ذاته، تذكي موجات الـ«روسفوبيا»، وتتخلى عن «قيمها»، لا سيما بما يتعلق بحرية التجارة والفكر والثقافة والفنون، وباتت تعاكس مصالح وإرادة شعوبها.

لقد عاشت أوروبا منذ خمسينيات القرن الماضي، تقدم نفسها راعية لنموذج حضاري يرعى القيم الإنسانية؛ ولكننا نرى اليوم أن أوروبا، تتخلى ليس فقط عن تلك القيم، ولكن أيضاً عن ذلك «النموذج».

ماذا يبقى من أوروبا حينما تتخلى عن كل ذلك!؟

لا شيء، سوى مشهد وحيد، أوروبا التي ذهبت وراء إدارة أوباما في التهليل لـ«الربيع العربي»، تجد نفسها اليوم، من خلال الانسياق وراء الإدارة الديمقراطية الحالية، وقد تحولت إلى مساحة مضطربة، ربما تتحول إلى «ربيع أوروبي»، من نوع ما.

ومثل هذا إن حصل، فإنه انهيار كارثي، لن يعني شيئاً سوى أن القارة الأوروبية، ستضطر للتخلي عن ريادتها لدول أخرى، إذ سرعان ما سيتحول ذلك «الربيع الأوروبي»، متى ما وقع، إلى «موسم» تنزيلات كبير لبيع مقدرات أوروبا وتصدير صناعاتها، بمؤسساتها ومصانعها وعمالتها الماهرة وكفاءاتها الحرجة، إلى الخارج.

وهناك دول ناشئة وصاعدة كثيرة تترقب بدء موسم التنزيلات الأوروبية!

* كاتب أردني