كان من المعتاد أن تجتهد روسيا بشرح نفسها، بينما يشكك الغرب بما تقول. واليوم، يحدث العكس تقريباً.

تُقدِم روسيا، بين اليوم والثاني، على خطواتٍ تربك كل فهم مستقر حول وضعها الميداني وما تنويه فعلاً. حتى إن المرء ليعتقد إنها تتعمد التضليل.

في الواقع، لا تزال روسيا تشرح نفسها، سياسياً، بدرجة الاجتهاد نفسها. غير أنها تمارس ما يكفي من التضليل على المستوى العسكري. وهذا مفهوم، فلا أحد يكشف عن استراتيجياته العسكرية، ولا حتى تكتيكاته. أما المطالب النهائية، فيجدر دائماً أن تكون واضحة، طالما هي لا تتجاوز حدود الحقوق على أحد.

وحول ما يمكن أن يكون تضليلاً روسياً متعمداً، وفي محاولة لفهم العقل الروسي، هناك بضعة أشياء يجدر استحضارها. ومن أولها، كلمة لموحد ألمانيا، أوتو فون بسمارك، الذي خدم سفيراً في روسيا، وقال فيها: «الروس يأخذون وقتاً طويلاً في إسراج خيولهم. ولكنهم، ما أن يمتطوها، حتى يسبقوا الجميع!».

الثانية، هي ما قاله القيصر ألكسندر الثاني: «لروسيا حليفان فقط: جيشها وبحريتها». بعد ذلك، يمكن أن نتحول إلى وينستون تشرتشل، الذي قال: «اعتدنا التقليل من شأن الروس. ولكنهم دوماً يفاجئوننا بأنهم بارعون في حماية الأسرار».

ولا تنتهي هذه الاستحضارات دون استعادة نابليون بونابرت، الذي كان معروفاً بحبه البالغ للعبة الشطرنج؛ لقد كان من أكبر أخطائه أنه خلط كثيراً بين «شدة حب اللعبة» و«درجة إجادتها»، فهاجم روسيا (1812)، وتحت إمرته أكبر تحالف في التاريخ حينها. ومع ذلك مُني بهزيمة نكراء، حينما فوجئ بخصمه يخوض الحرب بعقلية لاعب الشطرنج.

كان يواجه حينها القائد الروسي الداهية، ميخائيل كوتوزوف، الذي قال: «لن نهزم نابليون، ولكننا سنخدعه»، وأمر فوراً بإجلاء سكان موسكو وحرق المدينة، ثم سحب قواته مخلياً طريق نابليون إليها. وتالياً، تركه يواجه «الجنرال الثلج»، قبل أن يرهقه بمناوشات استنزفت قواته.

وبالنتيجة، ولّى نابليون هارباً، بعد ستة وثلاثين يوماً فقط، ولم يبق من جيشه الجرار الذي كان يصل إلى نصف مليون رجل، سوى آلاف معدودة.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن كثيراً من «الخبراء» العسكريين، يحتكمون في تحليلاتهم إلى ما يعرفونه عن الحروب الأمريكية، ويفوتهم أمر أساسي: عقيدة القتال الروسية لا تشبه غيرها. والأمر أشبه في أن الأمريكيين يتصرفون مثل لاعب القمار، يضعون كل أوراق قوتهم في الميدان مباشرة. أما الروس، فيلعبون الشطرنج.

ونعرف أن المقامر يغامر، بينما لاعب الشطرنج يفكر ويناور.

لا يسأل أحد من هؤلاء «الخبراء»، مثلاً، ما حاجة الروس إلى دعوة ثلاثمائة ألف من الاحتياط، في حين أن لديهم جيشاً جراراً يناهز تعداده المليونين، تتسلى كثير من قطاعاته بمناورات عسكرية هنا وهناك..؟!

ولا يلاحظ هؤلاء إن الروس يخوضون القتال بعدد محدود من القوات النظامية التابعة للمنطقة العسكرية الغربية صاحبة الاختصاص. ولا يلفتهم أن تسمية «العملية العسكرية الخاصة» إنما تعني واجباً قتالياً محدوداً، مناط بمنطقة عسكرية محددة.

ويستخلص هؤلاء من اللجوء المتكرر إلى تبديل القيادات العسكرية والجبهات والخطط ومحاور القتال، إن الروس يواجهون مشكلات لوجستية بالإمداد وضعف المخزون من الأسلحة والذخائر.

حسناً. لم يواجه الروس مشكلات من هذا النوع في سوريا، التي تبعد آلاف الكيلومترات، وبينهم وبينها دول؛ إذن، فكيف يمكن أن يواجهوا مثلها في جبهة قتال هي في كتف روسيا نفسها، وتقع بين أهم مناطقهم العسكرية، ومتصلة مباشرة بمستودعاتهم..!؟

وأيضاً، ألا يلاحظ هؤلاء «الخبراء» أن الروس يرتاحون لمثل هذه التحليلات، ويغذونها بالمعطيات عبر الإعلان المتكرر عن الصعوبات، وبالانسحابات وغيرها..؟

في الواقع، الغرب معني بدراسة النمط الروسي على أرض الواقع. والروس معنيون، بتضليلهم. ومن جهتهم، يحتاج الروس إلى تجريب مختلف الاستراتيجيات التي بنوها منذ مطلع القرن. ومهتمون باختبار جهوزيتهم. ولهذا تبدو هذه الحرب وكأنما هي سلسلة من المناورات التدريبية.

وهي بالفعل كذلك، ما أن تنتهي مناورة حتى يتم تبديل القيادات وتغيير الجبهات وإعادة الانتشار والتحول إلى استراتيجيات جديدة، لبدء مناورة تالية.

وهذا بالطبع، لأن الحرب الفعلية، لا تزال تجري في مضمار الاقتصاد والسياسة، وميدانها الطاقة وتكوين واقع دولي جديد. أما في حال اندلعت الحرب الفعلية في ميدان القتال، فإن روسيا ستدخلها، حيئنذ، بجيشها، دون شك.

إنه، من بعد وقبل، أمر يتعلق باستحالة أن يفهم «المقامر» عقل «لاعب الشطرنج»!

* كاتب أردني