مرّ يوم الانتخابات الأمريكية دون حوادث أمنية تذكر، وهذا في حد ذاته يُعتبر نجاحاً للعملية الانتخابية بعدما سادت مخاوف قبل يوم الاقتراع من إمكانية حدوث صدامات بين المؤيدين والمعارضين لهذا المرشح أو ذاك.

واستطاع «الحزب الجمهوري» أن يحصل على غالبية الأعضاء في مجلس النواب، لكن لم يحصل ما كان يتوقعه قادة هذا الحزب من «مد جمهوري» يكتسح «الانتخابات النصفية»، ولذلك يمكن القول إن «الجمهوريين» حققوا نصف نجاح في هذه الانتخابات.

أيضاً، لم يحقق المرشحون المدعومون من الرئيس السابق دونالد ترامب فوزاً ساحقاً في الدوائر الانتخابية وفشل بعضهم في الوصول إلى عضوية الكونغرس، وهذا ما يمكن وصفه بأنّه نصف نجاح لترامب وسيؤثر حتماً على احتمال ترشحه لانتخابات الرئاسة الأمريكية في العام 2024.

وإذا استطاع «الحزب الديمقراطي» أن يحتفظ بنصف عدد أعضاء مجلس الشيوخ فإنه سيكون مهيمناً على نصف السلطة التشريعية، إضافة إلى السلطة التنفيذية التي يرأسها الآن الرئيس بايدن.

وستترك الانتخابات «النصفية» (لكلّ أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وثلثي عدد حكّام الولايات) مزيجاً من التأثيرات السياسية داخل أمريكا وخارجها.

وتختلف هذه الانتخابات في معاييرها عن مثيلتها «النصفية» في السابق. فالحملات الانتخابية أكّدت ارتفاع نسبة القضايا الاجتماعية والثقافية في معايير الناخب الأمريكي ومدى حدّة الانقسام السياسي بين أتباع الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

فصحيح أنّ الأوضاع الاقتصادية هي الأهمّ بالنّسبة للمواطن الأمريكي لكن الصراع الفعلي الآن في المجتمع الأمريكي هو على كيفية رؤية مستقبل البلاد:

هل ستكون دولة يحكمها من هم من أصول أوروبية بيضاء كما كانت عليه الولايات المتّحدة منذ نشأتها، أم دولة ستهيمن عليها الأقلّيات العرقية والإثنية، وخاصّةً من هم من أصول أفريقية ولاتينية؟!

إنّ الانتخابات النصفية كانت بوضوح عبارة عن معركة بين نهجين مختلفين في قضايا كثيرة داخليّاً وخارجيّاً وبرزت في حملات المرشحين عناوين القضايا المختلَف عليها فعلاً داخل المجتمع الأمريكي وجدّية الانقسامات الأيديولوجية والاجتماعية لدى الأمريكيين، وأولويّة مفاهيم ثقافية ودينية واجتماعية في معايير الكثير منهم لدعم أي مرشّح.

فالمجتمع الأمريكي ما زال يعيش حالة انقسامٍ شديد بين مؤيّدي دونالد ترامب وما يرمز إليه من «أصولية أمريكية»، وبين معارضيه الذين ينتمون إلى فئاتٍ متنوّعة اجتماعياً وثقافياً وعرقياً، لكن يجمعهم الهدف بضرورة عدم إمكانية إعادة ترشّحه للرئاسة في العام 2024.

فعلى سطح الحياة السياسية الأمريكية صراعٌ بين «الحزب الجمهوري» والحزب الديمقراطي «بينما الصراع الحقيقي هو الآن بين «أمريكا القديمة» و«أمريكا الحديثة»، بين الماضي وبين المستقبل.

حيث شهدت وتشهد الولايات المتّحدة متغيّراتٍ كثيرة في تركيبتها السكّانية والاجتماعية والثقافية، ولم يعد ممكناً العودة بها إلى الوراء.

هكذا هي الآن أمريكا، وهكذا ستكون معاركها الانتخابية القادمة، إذ لن تكون فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تطغى أحياناً على سطح الإعلام، بل حول المسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. أي ستكون معارك سياسية حول كيفيّة رؤية أمريكا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأمريكي.

ولقد كان من الصعب في القرن الماضي التمييز بعمق بين برنامجيْ الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن حتماً في محصّلة السنوات الأخيرة، أصبحت الخلافات تتّسع بين رؤى الديمقراطيين والجمهوريين لأنفسهم ولمستقبل أمريكا ولعلاقاتها الدولية.

ووجدنا هذه الفوارق واضحة في الانتخابات الرئاسية الماضية وفي هذه الانتخابات النصفية الأخيرة.

المجتمع الأمريكي يسير نحو التطرّف بالاتجاهين المتعاكسين لأسباب موضوعية تزداد فاعليتها في هذا القرن الجديد. وإذا كانت تسمية الانتخابات الأخيرة هي «انتخابات نصفية» بسبب حدوثها دوماً في منتصف فترة أي رئيس أمريكي، فإنّ واقع الحال أنّها انتخابات كرّست انقسام المجتمع الأمريكي إلى نصفين لكل منهما أجندته المتناقضة مع «النصف الآخر» في أمة يُطلق عليها اسم «الولايات المتحدة»!

*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن