ليس عدد الكتب التي قرأتها الطفلة السورية شام محمد البكور، بطلة تحدي القراءة العربي في نسخته السادسة، والتي بلغت 100 كتاب خلال عام واحد، هو أكثر ما جذب اهتمامي، ولا سنها البالغ 7 سنوات فقط، وإنما حرصها وحرص زملائها الصغار، الذين صعدوا إلى منصة التكريم في أوبرا دبي يوم الخميس الماضي، على التحدث بلغة عربية فصيحة خالية من الأخطاء التي يقع فيها أغلب الكبار الذين يحاولون التحدث بالفصحى، رغم قلتهم بين المتحدثين بالعربية، الذين هم قليلون أيضاً إذا ما قارناهم بالذين يحرصون على الحديث بلغات غيرها، إما لعجز متأصل لديهم في إتقان لغتهم الأم، أو لعقدة نقص في نفوسهم، لاعتقادهم أن التحدث أو الكتابة باللغة العربية مظهر من مظاهر التخلف.

لن أستدعي ما سبق أن كتبتُه وكتبه غيري من الغيورين على اللغة العربية عن أهمية هذه اللغة ومكانتها وقدْرها بين اللغات، وعن اعتزاز غيرنا من الشعوب بلغاتهم مقابل استهانتنا نحن العرب بلغتنا، فقد أصبح هذا من الأمور التي كثر الحديث عنها، وأصبح تكراره غير ذي جدوى، ولعله أشبه ما يكون بالبكاء على اللبن المسكوب ومحاولة جمعه من بين حبات الرمل التي تسرب خلالها، ولكن أستعيد سيرة شام، التي شاهدناها من خلال الفيلم القصير الذي تم عرضه في حفل ختام البطولة عنها، والذي عرفنا منه أنها قد خرجت من رحم المعاناة، فقد نجت شام من انفجار أودى بحياة والدها وهي لم تزل بعد رضيعة، وأصيبت بشظايا في رأسها، وتربت في ظروف صعبة، لكن الأمل انبعث وسط الألم، فتميزت شام وسط قريناتها من الطالبات، وأصبحت قائداً صغيراً، لديها قدرة على حفظ وسرد الأشياء التي تقرؤها في زمن قصير جداً، ذات مهارات رائعة جداً، يرى مواطنوها فيها مستقبل سوريا بعد 20 عاماً، مثلما جاء على ألسنة الذين تحدثوا في الفيلم مشيدين بها.

تفوقت شام على أكثر من 61 ألف طالب وطالبة في سوريا، وفازت بتمثيل بلدها في تحدي القراءة العربي، وأحرزت في النهاية بطولة التحدي متفوقة بذلك على أكثر من 22 مليون طالب وطالبة سجلوا المشاركة القياسية الأكبر في التحدي القرائي منذ انطلاقته. هذا التفوق، رغم صغر سن شام، يدحض مقولة أن الرفاهية شرط للتفوق، ويؤكد أن المعاناة تكون أحياناً دافعاً للإبداع والتفوق. ويبقى عامل الثقة بالنفس مهمًّا، وهو ما بدا على الطفلة شام في كل المقابلات التي أجريت معها، وكل الأحاديث التي أدلت بها لوسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي التي طاردتها، حتى قبل إعلان فوزها ببطولة التحدي، وهو ما ينطبق أيضاً على بقية المشاركين، خاصة أولئك الذين وصلوا معها إلى المرحلة النهائية، وكانوا جميعاً واثقين من أنفسهم، معبرين عنها بوضوح وطموح إلى نيل البطولة، لولا أن صغر سن شام، مقارنة بزملائها، بالإضافة إلى جدارتها وتفوقها ونبوغها، كانت عوامل مهمة أدت إلى فوزها، وتتويجها بطلة للنسخة السادسة من تحدي القراءة العربي.

أعود إلى ما بدأت به، فأقول إن حرص شام وزملائها على استخدام اللغة العربية الفصحى خلال الأحاديث التي أدلوا بها، والمقابلات التي أجريت معهم، وخلو نطقهم من الأخطاء اللغوية، التي اعتدنا سماعها لدى الكبار عادة، كان لافتاً، وهو ما يجعل الأمل لدينا كبيراً في استعادة لغتنا العربية مكانتها ومجدها بين أبنائها، فإذا كان هؤلاء الأطفال الصغار قد استطاعوا أن يعبروا عن أنفسهم بلغة عربية فصيحة مبينة خالية من الأخطاء اللغوية، فإن الكبار يستطيعون ذلك دون شك، شريطة أن يتخلصوا من وهم صعوبة اللغة العربية، وأن يبذلوا جهداً أكبر في تعلمها والالتزام بالتحدث بها، كما أن الأطفال العرب يجب أن يجعلوا من شام وزملائها قدوة لهم وهم يرون كل هذا الجمال المتدفق من كلمات اللغة العربية الفصحى وهي تجري على ألسنة أطفال صغار مثلهم، حرصوا على استخدامها استخداماً صحيحاً دون أخطاء، ونستطيع نحن أن نفعل مثلهم، أو نحاول أن نفعل بأقل قدر من الأخطاء، على أمل أن نستطيع الوصول إلى الكمال يوماً، مثلما استطاع هؤلاء الصغار أن يحققوا هذه المعادلة التي يراها البعض صعبة، وقد أثبتت شام وزملاؤها أنها ممكنة.

لقد أحرجتم الكبار يا صغاري الأعزاء، فلا أقل من أن نوجه لكم تحية، ونشد على أيدي أهاليكم الذين كان لهم دور كبير في رسم هذا المشهد الجميل الذي رأيناه يوم الخميس الماضي على مسرح أوبرا دبي، فأثلج صدورنا وأبهج نفوسنا، وجعلنا نستبشر خيراً بمستقبل لغتنا.