سأقول لك الآن شيئاً يدهشك بحق. هل تصدق أن حديقة منزلنا في القرية كانت بمثل هذا التنسيق والجمال؟ لم يكن أبي يتساهل مع البستانية أبداً لو حدث أي إهمال.
حاولت الابتسام وأنا أقول: سمعت أنه كان قصراً لا منزلاً.
- لا، هذه مبالغة. كان بيتاً كبيراً، ولكنه كان بيتاً جميلاً.
ثم سكت لحظة قبل أن يضيف وقد غلبه الاكتئاب هذه المرة:
- ولكني لم أعرف فيه السعادة أبداً.
- حتى أنت؟
تطلع إبراهيم نحوي وقال في بطء: ماذا تقصد حتى أنا؟ نعم، حتى أنا! سمعتك مرات تتحدث عن طفولتك الفقيرة وصدقني أني في بعض الأحيان كنت أحسدك! كنت أسأل نفسي لماذا لم أكن أنا أنت؟ لماذا لم أكن أي إنسان آخر بدلاً من أن أكون أنا؟ أحياناً ما تأتيني هذه الأفكار الغريبة.
- هل كانت طفولتك شقية حقاً إلى هذا الحد؟
ولكنه واصل كأنه لم يسمعني: أسأل نفسي كثيراً في هذه الأيام، ما هي تلك المصادفات التي تتحكم فينا وتصنعنا؟ هل كان من الضروري حقّاً أن أولد ابناً لمالك الأرض في القرية؟ وهل كان من الضروري أن يملأ أبي البيت بالكتب التي يقتنيها ويجلّدها ويطبع عليها اسمه بخط النسخ المذهب دون أن يفتح منها كتاباً، ثم يترك لي أنا همَّ القراءة منذ تعلمت القراءة؟ ماذا لو أن شيئاً من ذلك لم يحدث؟ هل كانت حياتي ستفسد من أولها؟ هل كانت حياتي ستقع على العطب في كل شيء؟ لماذا لم أستمتع بهذه الحياة مثلما يستمتع بها كل إنسان؟
بدأ إبراهيم أسئلته بهدوء، ثم تسللت نبرة من التوتر إلى صوته. أوشكت أن أقول له إن هذه الأفكار ليست علمية، ولكنني أمسكت لساني حين رأيته يحك جبينه بيده ويحدق أمامه مباشرة، وكأنه يبحث الآن في هذه الحديقة عن إجابة للأسئلة التي عذبته طويلاً.
كان إبراهيم ينحدر من أسرة غنية تملك أرضاً في قريتها، بينما كان بطل رواية الكاتب المصري بهاء طاهر «الحب في المنفى» ينحدر من أسرة فقيرة تعيش في قرية في آخر الصعيد، نشأ فيها طفلاً وحيداً مع أبيه بعد أن ماتت أمه بالملاريا وهو في الرابعة من عمره. كان فخوراً يوم ارتدى البذلة لأول مرة وأبوه يصحبه معه ليذهبا إلى المدرسة البعيدة في المدينة. يتذكر كيف كان في أيامه الأولى يفرح عندما يقول له أحد المدرسين أن يخرج من الفصل، ويطلب من أبيه أن يحضر بعض الطباشير أو حبراً للأقلام، أو أن يحمل له إحدى الخرائط الكبيرة التي يضعونها على السبورة...
ولكن متى بدأ يشعر بالعار؟ عندما كبر قليلاً؟ عندما كان التلاميذ يعيرونه إذا ما تشاجروا في الفسحة بأنه ابن فراش المدرسة؟
كان إبراهيم وبطل الرواية، الذي لم يُوْرِد الكاتب له اسماً فيها، صحفيين فرّقت بينهما الانتماءات عندما كانا في وطنهما، أما الآن، وقد التقيا بعد سنين طويلة في إحدى المدن الأوروبية، فقد جمعت بينهما صداقةُ منفيَّين بإرادتهما، أو رغماً عنهما، فقد أرادت الصحيفة التي كان يعمل فيها بطل الرواية أن تبعده عن مقرها فعينته مراسلاً لها في تلك المدينة الأوروبية، بينما اختار إبراهيم أن ينفي نفسه في بلد عربي بعد أن شعر بالغربة في بلده، كانا زميلي مهنة سابقين فرّقت بينهما المبادئ وجمعتهما المنافي.
- ما الفائدة أن يجد الإنسان ما ظل يبحث عنه طول عمره، ولكن بعد فوات الوقت؟
كان هذا واحداً من أسئلة إبراهيم التي لم يجب عنها صاحبه، فهو يعرف أنه يمكن أن يساعده بالصمت أكثر مما يساعده بالثرثرة. في سؤال آخر التفت إبراهيم إلى صديقه، وقال فيما يشبه الغضب:
- لماذا يمر الزمن دون أن يترك في النفس علامة؟ دون أن يقول هنا تتوقف عن الحب، وهنا تترك الأمل، وهنا تكف عن التفكير؟
أجاب وهو يشعر أن توتر صديقه يعديه:
- ربما تأتي العلامات، ولكننا نتجاهلها.
قال إبراهيم وهو يلوح أمام وجه صديقه بالنفي:
- أبداً، أبداً.. أنا لا أجد في داخلي هذه العلامات.
أسئلة إبراهيم لا تنتهي، رغم أن الحياة نفسها تنتهي.
في ختام الرواية، التي انتهى المؤلف من كتابتها عام 1995 في جنيف، دوّن بهاء طاهر: «هذه رواية أساسها الخيال، ولكن هناك مع ذلك أشياء حقيقية». هذه الأشياء الحقيقية ربما وجدناها في كتاب «السيرة في المنفى» الذي نشره بهاء طاهر قبل وفاته بخمس سنوات. توفي بهاء طاهر أواخر شهر أكتوبر الماضي تاركاً لنا حباً وسيرة في المنفى يُكمِل أحدهما الآخر.