لم يكن إتمام صفقة تبادل سجناء بين روسيا والولايات المتحدة بوساطة إماراتية وسعودية، خبراً مفاجئاً. كما أنه، في الوقت نفسه، ليس من الأخبار التي يمكن أن يتوقعها المرء كل يوم؛ فالملف قديم في بعض جوانبه، ومستعصٍ، واستهلك قبل ذلك جهوداً كثيرة، وكبيرة، دون أن يشهد أي تقدم.


ومن ناحية ثانية، كان من الملفت أن نجاح الإمارات والسعودية في التعامل مع هذا الملف، لم يأتِ في سياق نمط الوساطات الكثيرة التي تحصل بين الفينة والأخرى، وتكون فيها «العلاقات العامة» سيدة الموقف؛ بل جاء ليعبر عن ديناميكية دبلوماسية، شهدناها في الفترة الماضية تحقق نجاحات متتابعة في السياسة الخارجية، تتناسب مع الثقل الذي بات البلدان يمثلانه في مضمار العلاقات الدولية.


وفي السياق نفسه، يأتي هذا التقدم ليؤشر على أهمية وفعالية تكامل الجهود الإماراتية السعودية في التعامل مع القضايا الدولية الشائكة.


ومن جانب آخر، لا يخلو هذا الإنجاز من المعاني، التي تؤشر على مستجدات الوضع العالمي، والتغيرات التي تطرأ عليه، والوجهة التي تأخذها هذه التغيرات، وتقود إليها.


وببساطة، لم تكن هذه مجرد مسألة روتينية بين دولتين عاديتين. بل قضية عالقة بين قوتين عظميين، هما الآن في حالة اشتباك معقدة، على مستويات متعددة، وبأشكال مركبة، في مناطق باردة وأخرى ساخنة، وفي مجالات تتداخل فيها وتتشعب الأبعاد الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.


وفي الواقع، إن المؤشرات الإيجابية، التي يمثلها هذا الإنجاز بالنسبة للدبلوماسية الإماراتية والسعودية، تقابلها مؤشرات مقلقة بشأن واقع الاتصالات بين القوتين العظميين، التي يتضح أنها وصلت إلى مرحلة من انعدام الثقة لا تمكنهما من التعامل حتى مع القضايا ذات الطابع الإنساني.


وهذا واقع خطر حينما يتعلق الأمر بدولتين نوويتين، تتواجهان في أكثر من مضمار. ومن هنا، فإن أية مساعدة يمكن أن تقدمها أطراف وازنة، تحظى باحترام وثقة الطرفين، هي مساعدة ضرورية، وملحة، ومطلوبة، وتصب في حفظ الاستقرار العالمي.


ويطيب هنا للمرء أن يستنتج أن مثل هذا الدور الذي قامت به الدبلوماسية الإماراتية والسعودية، ليس مجرد وساطة، ولا جهداً عابراً، وإنما هو وجه من وجوه وديناميكيات وتوجهات العلاقات الدولية في المرحلة المقبلة، حيث تبدو الدبلوماسيات المتوازنة والسياسات الخارجية المنفتحة، بوصفها «رأسمال» سياسي قوي، تبرز الحاجة الاستثنائية إليه، في الظروف الدولية الراهنة، التي تمثل لحظة تحول حرجة.


لذا، فإن أول ما يجدر قوله، هنا، هو أن الجهود الإماراتية السعودية تثبت أن هناك كثيراً من الدول، في عالمنا الثالث، قادرة على ملء فراغات حرجة في السياسة الدولية، وأدوار مهمة فقدها أصحابها بفعل الاستقطاب الدولي الشديد، الذي جرف بعض الدول المهمة، القادرة على حفظ التوازن في العلاقات الدولية، إلى مناطق الانحياز المتطرف.


ويمكن هنا، الحديث عن دول القارة الأوروبية، التي كانت رغم اصطفافها في الناتو إلى جانب الولايات المتحدة، إلا أنها كانت قادرة على لعب دور فعال في تفكيك الزوايا الحادة في العلاقات الدولية. بينما من الواضح أنها قد وضعت نفسها، اليوم، في مكان لا يؤهلها للعب دور الوسيط النزيه، أو الاضطلاع بأدوار موثوقة من كل الأطراف؛ فقد باتت طرفاً متصلباً، يتزمت في سياساته، ويتمترس في خندق ضيق، لا يبعث على الارتياح.


وفي الواقع، يبدو جلياً أن المجريات اليومية في السياسة الدولية، تثبت لنا أن السياسات المتوازنة، والأدوار المستقلة، هي أكثر نجاعة وقدرة على خلق واقع دولي أكثر استقراراً، ومؤهل للتعاطي العقلاني مع مختلف الأزمات والقضايا. في الحقيقة، يبدو جلياً أن العالم يستفيد فعلاً من بروز أدوار وقوى جديدة في مضمار السياسة الدولية. بل إن حلحلة القضايا المستعصية هو رهن بذلك، وببروز مثل هذه القوى، لا سيما منها تلك الصاعدة، التي هي في طريقها إلى التبلور بوصفها قوى إقليمية كبرى؛ وهذا نفسه يسري على النظام الدولي الجديد، الذي يمكن أن يحمل تغييره نحو تعددية غير قطبية (استقطابية)، الخير والفائدة للعالم كله.
العالم كله، بما في ذلك الدول التي تقف ضد هذا التوجه!


*كاتب أردني