لقد بات معروفاً أن اعتقادات الإنسان، ليست مجرد أفكار. بل هي منظومة متكاملة، تعبر عن الحاجات والمصالح الحاكمة للسلوك البشري، سواء صدرت عن أفراد منفصلين، أو جماعات ومجموعات تعبر عن المجتمعات وفئاتها وشرائحها.

وهذا، يوجه الانتباه نحو مجموعة من الأسئلة الثقافية الحرجة، التي يمكن أن تفسر بإجاباتها لماذا فشلت التنمية في بعض البلدان، رغم نجاحها في بلدان أخرى مشابهة في واقعها. وهذا بدوره يقودنا إلى تأمل كيف تفكر الثقافة بالتنمية.

في الواقع، تفكر «الثقافة» بـ«التنمية» أكثر مما تفكر «التنمية» بـ«الثقافة». وهذا ليس غريباً على نحو خاص، فالاعتقاد السائد هو أن الثقافة هي مجرد حالة رفاهية وترفيه، وضعيفة العلاقة بالمعادلات الواقعية، وتفتقر إلى القدرة على إعطاء «نصائح» وتوجيهات فيما يتعلق بالواقع اليومي العملي. ولكن هذا محض وهم، تجاوزته العلوم الاقتصادية الحديثة.

تسأل الثقافة، بما يتعلق بالتجارب التنموية، أسئلة من قبيل:

هناك في كل بلد، فئة من الاختصاصيين والمشتغلين بالشأن العام، يمثلون كفاءات معينة، تمتلك مستوى محدداً من النفوذ والفعالية، ويشكلون في مجموعهم «نخبة» ما. وهناك أيضاً أدوار متبلورة في «وظائف» ذات صلاحيات معينة، حاسمة. كما أن هناك، كذلك، استراتيجيات وطنية تحدد إطاراً للسياسات العامة..

وأول الأسئلة هنا: هل هذه العناصر تتمتع بظروف تمكنها من التفاعل الإيجابي المثمر. أي، هل تحظى بفرصة العمل، معاً، كماكينة واحدة، متكاملة؟

وتالياً: في عالم اليوم الذي يستخدم أدوات القياس في حساب القيمة، هناك دوماً أسئلة تتعلق بمستوى جودة «النخب»، و«الوظائف»، وفعالية الاستراتيجيات، ومدى مناسبتها للحاجات الوطنية، المحلية، في كل بلد.

أي السؤال حول: ما هو مستوى جودة «النخب»، و«الوظائف»، وما مدى فعالية الاستراتيجيات، ومقدار مناسبتها للحاجات الوطنية، المحلية، في هذا البلد أو ذاك..؟

ومن جهة ثانية، الجهاز البيروقراطي، في كل دولة، يمثل جسمها وأداتها التنفيذية. والقناعات والتصورات التي تؤمن بها نخبة هذا الجهاز تمثل عقل الدولة وفكرها؛ وهذا يقود إلى سؤال جوهري: إلى أي حد يمكننا القول إن جسم الدولة، في هذا البلد أو ذاك، قادر، ويتمتع بالعافية، ويمكنه أن يكون فكرها وعقلها. وهل قناعاته وتصوراته تتناسب مع المهمات المناطة به؟أي، ما هو مستوى جودة أفكار هذا الجسم وتصوراته..؟

وما هو الدور الفعلي الذي تضطلع به النخب البيروقراطية، في هذا البلد أو ذاك، على مستوى تحديد السياسات العامة، وإحداث تحول إيجابي، لا سيما على صعيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي..؟

ما مدى جودة تصميم الوظائف، الحاسمة، وما هو مستوى ملاءمتها لإحداث تحول في مجال التنمية..؟ وهل يستجيب الهيكل الحكومي بعمومه (هيكل الحكومة نفسه المكون من وزارات وإدارات، ووزراء يضطلعون بالمسؤوليات) لضرورات التنمية ومواجهة التحديات؟

ما هي القيمة الفعلية، التي تقدمها النخب (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. إلخ) في مجال تمكين مجتمعها من مواجهة التحديات..؟

وفي هذا الزمن الذي تطغى فيه أفكار «الليبراليين الجدد» والأيديولوجيا الغربية، الغريبة، التي يتبنونها حول «الحريات» و«الديمقراطية»، يمكن السؤال: ما هي القيمة الفعلية، التي تقدمها السلطتان، التشريعية والقضائية، في هذا المجال (حتى في المجتمعات الغربية)..؟

وتالياً: ما مستوى نفوذ النخب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمقارنة مع نفوذ النخب السياسية؟ وما حجم ومستوى نفوذ النخبة البيروقراطية، مقارنة بالنخبة السياسية..؟

وأيضاً: ما حجم المدخلات غير السياسية (وغير الاقتصادية، وغير الاجتماعية) في السياسة العامة بما يتعلق بالتنمية الاقتصادية..؟

ما الدور الذي تضطلع به النخب السياسية في هذا السياق؟ وعلى وجه التحديد: ما هي مساهمة النخبة السياسية في التنمية الاقتصادية وضمان الاستقرارالاجتماعي؟ وإلى أي حد تحضر الأسئلة سالفة الذكر في عقل من يتصدون لمهمات وضع الاستراتيجيات التنموية، وما مقدار إيمانهم بأهميتها في مجال التصدي لسؤال التنمية..؟

هذه متوالية من الأسئلة، لا تنتهي، لكنها تشكل مدخلاً لفهم الكثير من التجارب التنموية التي منيت بالفشل، ويمكنها خلق مقاربة علمية وأكاديمية متخصصة، «غير سياسية»، للتفكر بالتجارب التنموية التي لم تستطع أن تكون بمستوى التحديات التي واجهتها. وهي كذلك، تعبر عن الأسئلة الثقافية الحرجة، التي تضمن إجاباتها الصحيحة النجاح.

*كاتب أردني