رغم ما تثيره الأزمات الدولية من صعوبات، إلا أنها لا تخلو من الفرص والإمكانيات الجديدة. ويمكننا أن نلاحظ، كذلك، أن هذه الأزمات المستجدة، التي نشهدها اليوم في القارة الأوروبية، محكومة بأسقف وحدود تبقيها مثل عاصفة في غرفة مغلقة، مهما اشتدت إلا أنها لا تتوسع.

ويمكن في هذا السياق ملاحظة أن هذه الأزمات، لا تسير وتتطور في اتجاه واحد، ففي حين خلقت عدداً من المواجهات على العديد من الصعد، إلا أنها أوجدت من جهة ثانية الكثير من التفاهمات الدولية.

وفي ملاحظة ثالثة، تميزت هذه الأزمات في الغالب العميم، بمستوى غير معهود من الانضباط الدولي، الذي يجنب العالم التورط في حرب واسعة النطاق، في حين أن الجهود التي تقوم بها أكثر من دولة تؤتي ثمارها، فتسهم بإطفاء المزيد من لحظات التطور الخطرة، أو تقدم آفاقاً لتسوية العقد المستعصية.

ومن المهم هنا، أن العلاقات الدولية باتت نطاقاً أوسع من أن تحتكره دولة أو دولتان، فبرزت أدوار دولية لدول كثيرة، بما يتناسب مع حجم إسهامها في الاقتصاد العالمي، ومقدار تأثيرها في القضايا الإقليمية.

وبعيداً عن هذا وذاك، تبرز في خضم كل هذا فرص غير متوقعة في مجالات حيوية. وقد تكون الفرص التي ظهرت في مجال التعليم في الفترة الأخيرة واحدة من أكثرها إثارة للاهتمام، وتؤذن بأفول عصر احتكار المعرفة وتقييدها.

وتبرز أهمية هذه اللحظة، باعتبار أن التعليم المتخصص هو اليوم ضرورة وبوابة للحصول على المعارف المتقدمة، واستيراد التكنولوجيات المتطورة، وتأمين الاقتصادات الجديدة بالكفاءات والخبرات الوطنية في المجالات الحيوية، الأمر الذي يشكل فرصة للعديد من الدول التي تتبنى استراتيجيات تنموية طموحة.

ومن اللافت أن أول بوادر هذا، هو التوجه الذي بدأ يأخذ زخماً غير مسبوق في روسيا، التي تفتح اليوم مؤسساتها التعليمية كافة للجميع، في مختلف التخصصات، حتى تلك التي كانت تعتبر مقيدة أو مغلقة، ولم تكن متاحة إلا لأبنائها.

وفي استعراض سريع لحجم الانفتاح في المجال التعليمي، يمكن الوقوع على جامعات ومؤسسات تعليمية عريقة وفريدة بما تتيحه من معارف وأساليب تعليم متقدمة؛ بدءاً من العلوم الإنسانية والفنون مروراً بالعلوم التجارية والصناعية وتلك المرتبطة بقطاعات اقتصادية حيوية مثل النفط والألماس واستكشافهما وتنجيمهما واستخراجهما وتحويلهما وإدارة تجارتها، وسوى ذلك.

وفي ذات السياق، بدأنا نشهد هذا التوجه في فتح وإتاحة الدراسة في الكثير من المؤسسات التعليمية، المتعلقة باستعمالات الطاقة النووية بمجالاتها المختلفة. وكذلك في مجال الذكاء الاصطناعي، التي هي من العلوم الأكثر لفتاً للنظر وإغراء.

إن حجم الفرص في مجال التعليم الذي تتيحه الظروف الحالية يشمل كذلك نوعية الخدمات المقدمة للطلاب، والكلف المتواضعة للتعليم في مجالات لم تكن متاحة، إضافة إلى الكادر البشري المتميز الذي يقدم خبراته ومعارفه للطلاب المنتسبين.

ومن ناحية ثانية، مثل هذا الانفتاح يتيح التبادل الأكاديمي والتعاون العلمي بين المؤسسات التعليمية. وهو ما يمثل رافعة مثالية لرفع القيمة العلمية والأكاديمية للمؤسسات التعليمية.

الفرصة الحقيقية تكمن هنا في إتاحة المعرفة وجعلها مشاعاً إنسانياً، بعدما كانت احتكاراً لمن ينتجها. وهذا يقود إلى الحديث عن شكل جديد من الثروات، القائمة على المعرفة، وهو ما سيشكل وجه العالم الجديد، ويحدد القدرات التنافسية لكل بلد.

لقد استثمرت دولنا في التعليم الأساسي، فبنت كتلة من المتعلمين على المستوى الجامعي؛ واليوم تنفتح فرصة بناء كتلة من الاختصاصيين في مجالات العلوم الحيوية والحاسمة.

وبالطبع، يمكننا أن نتصور أن التعليم نوع من القوة الناعمة، التي تبني العلاقات المنتجة والمثمرة، من الطرفين: من يقدم التعليم، ومن يتلقاه. وهو كذلك عملية استيراد للثقافة والعلوم والمنجزات الحضارية. ولكنه، أي التعليم، يتميز بأنه قوة ناعمة متوازنة، يصب في تعزيز العلاقات والتفاهم المشترك، لا في هيمنة طرف على آخر.

 

* كاتب أردني