ينظر إلى التعصب، عادة، على أنه أمر مذموم، وسلوك في القول ممجوج، وهو كذلك فعلاً. وأسوأ أنواع التعصب هو التعصب العرقي والتعصب القومي، وبخاصة إذا ترافق التعصب مع أوهام وأساطير لا علاقة لها بالواقع والتاريخ.

أن ينبري علم التاريخ لدراسة أقوام بادت وسكنت في هذه المنطقة أو تلك، فهذا أمر ينتمي إلى العلم، وأن يخلق الأصل والفصل لبعض الناس الذين يعتقدون بانتسابهم إلى بقايا أقوام ما زالت آثارهم باقية، وما زالت جماعات منهم تسكن في أماكن يعتقد بأنها موطنهم، فهذا أمر لا يضير الوعي بالانتماء لجنسية الدولة المتعددة الأديان والأقوام.

ومن الملاحظ أن التعصب الديني والقومي في بلداننا العربية ليس وعياً شعبياً، فما من مصري عادي يقول لك إن سألته من أين: أنا فرعوني، بل يجيبك أنا مصري عربي، ولا أحد من السوريين أو الفلسطينيين يجيبك إن سألته من أين: أنا فينيقي أو آرامي، وقس على ذلك.

وجميع سكان المنطقة العربية لا يعرفون أنفسهم بالدين أو المذهب، غير أن رهطاً من المنتمين إلى فئة المثقفين يجعلون من وعيهم بالهوية العائدة للأصل والفصل التعصبي حقيقةً عامة من دون أي اكتراث شعبي بهذا التعريف الأيديولوجي.

ومن المؤسف أن ينال التعصب من إرثنا الفلسفي والأدبي والعلمي في صورة البحث عن أصل مبدعينا وفصلهم وطوائفهم عند ذوي الوعي الطائفي أو الوعي العرقي المتَوَهم، فتراهم يتحدثون عن أن جُل المبدعين في الحضارة العربية الإسلامية هم إما من غير العرب، أو أنهم من أقليات طائفية.

لن ندخل في نقاش عقيم حول أصل هذا المبدع أو ذاك، حسبنا القول بأن المبدعين ينتمون إلى بنية الحضارة العربية الإسلامية، وعندما نذكر كلمة العربية فإنما نشير إلى اللغة العربية بوصفها لغة الحضارة الوحيدة والحضارة الواحدة آنذاك، فالمبدع هو لغته والهوية القابعة في لغة التعبير، فماذا يعني أن يكون بشار بن برد الذي أبدع شعراً عربياً أصيلاً من أصول فارسية مثلاً؟

وماذا يعني الاختلاف حول أصل أبي حيان التوحيدي، المعتزلي الذي ولد في بغداد 922م، ومات في شيراز 1023، ماذا يعني إن كان من أصول عربية، كما يرى بعضهم، أو من أصول فارسية، كما يعتقد البعض الآخر، وهو أصلاً لا يُجيد إلا العربية؟

وماذا يعني أن يكون انتماء المتنبي إلى طائفة، وانتماء أبي تمام إلى طائفة الأكثرية؟ فليس في شعر هذا وذاك ما يشير من قريب أو بعيد إلى الانتماء المذهبي.

وليس هذا فحسب، بل إن أمير الشعراء العرب المعاصرين صار هو الآخر موضوع خلاف حول أصله وفصله، فأحدهم رده إلى الأصل الشركسي، وآخر قال بأنه من أصول ألبانية، وثالث أشار إلى أصله الكردي، وأنت لا تجد في كل ما أبدع شوقي إلا تلك الهويات القومية الآنفة الذكر.

وحسبه هو القائل:

تسأل أترابَها... مُومِئةً بالعَنَم

أي فتى ذلكن ... ن العربي العَلَم

يشربُها ساهراً... ليلَته لم ينم

قلن تجاهلتِهِ... ذلك ربُّ القلم

فشوقي شاعر عربي بالمعنى الحضاري اللغوي، فهو يعرف الفرنسية والإنجليزية، لكنه عبّر عن ذاته بالعربية فقط.

والحق أن العودة إلى النزعة الشعوبية التي ظهرت في نهاية العصر الأموي والعصر العباسي ليست سوى عودة كاريكتورية لظاهرة ليست ذات شأن في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، فالكراهية من بعض المثقفين سكان الجغرافيا العربية والمتحدثين بالعربية ويكتبون بالعربية، والذين يعتقدون بأنهم من أصول غير عربية، وعي تعصبي زائف جداً جداً.

وليس من شيمة العربي أن ينظر إلى الأقوام التي تشعر بانتمائها القومي المختلف من سكان المنطقة، أن ينظر إليها على أنها أقل شأناً منه.

نعيد ونكرر ما قلناه في المقدمة: التعصب أمر مذموم، وسلوك في القول ممجوج.

 

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني