ترتبط أستراليا واليابان بعلاقات ودية، شهدت نمواً متواصلاً في مختلف المجالات على مدى العقود الماضية. فرغم تباينهما في الثقافة والمساحة وعدد السكان والقوة الاقتصادية، ورغم أزمات وخلافات الماضي بسبب غزو القوات اليابانية لآسيا وهجومها على مدينتي داروين وسيدني، ثم مشاركة القوات الأسترالية في احتلال اليابان زمن الحرب العالمية الثانية، إلا أن القواسم المشتركة العديدة بينهما سهلت في حقبة ما بعد الحرب تحولهما إلى شريكين استراتيجيين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
فهما قوتان مزدهرتان وبلدان ديمقراطيان صناعيان وحليفان مهمان لواشنطن، ويواجهان نفس الأخطار والتهديدات، وتشغلهما مخاوف مشتركة.
صحيح أن التجارة شكلت حجر الزاوية في علاقة البلدين منذ القرن 19، حينما استوردت اليابان من أستراليا أول شحنة من الفحم سنة 1865، ثم أول شحنة من الصوف سنة 1888، قبل أن يتنوع ويزداد التبادل التجاري تدريجياً حتى صارت اليابان ثالث أكبر شريك تجاري لأستراليا في عام 1930، وثاني أكبر سوق تصدير لأستراليا بحلول منتصف الثلاثينات.
وصحيح أيضاً أن علاقات البلدين البينية لئن بدأت تجارية وازدهرت كثيراً بعد بروز اليابان كقوة اقتصادية واستثمارية كبيرة وبروز أستراليا كبلد مصدّر للطاقة والغذاء والمعادن، إلا أنها تشعبت سريعاً إلى مجالات أخرى صناعية واستثمارية وثقافية وسياحية وعلمية، وصولاً إلى الشراكة الأمنية والدفاعية والاستخباراتية في السنوات الأخيرة على المستوى الثنائي والجماعي.
ونجد تجليات ذلك في تعاون طوكيو الوثيق مع التحالف الاستخباراتي الموقع عام 1941 تحت اسم «العيون الخمس FVEY» من أجل المساهمة في استخبارات الإشارات بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا، والاتفاقية الثنائية الموقعة عام 2015 بين طوكيو وكانبيرا للتعاون في مكافحة الإرهاب، وتعاون اليابان الفعال في رؤية «منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة FOIP» مع أستراليا والولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا والهند منذ عام 2016، وانضمام اليابان سنة 2021 إلى أستراليا والولايات المتحدة والهند في تحالف «كوادQUAD» الأمني الرباعي. وأخيراً اتفاقية الأمن المتبادل بين كانبيرا وطوكيو (RAA) في 2022 للتعاون والتدريب المشترك على أنشطة الإغاثة والإنقاذ في حالات الكوارث.
مؤخراً حل الزعيم الياباني فوميو كيشيدا بمدينة بيرث في أول زيارة لرئيس وزراء ياباني إلى أستراليا منذ عام 2018، وعقد محادثات مع نظيره أنتوني ألبانيز، أثمرت عن إطلاق البلدين لتحالف استراتيجي تاريخي جديد، يجدد ويعزز تحالفاتهما القديمة، ويرسل إشارات قوية للآخر بأنهما عازمان على العمل معاً من أجل ضمان الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ومنع عسكرتها.
وعلى الرغم من أن الإعلان المشترك، وكذا الكلمات المتبادلة بين الضيف والمضيف لم يشر صراحة إلى من هو المقصود بـ «الآخر»، فإن المراقب لا يحتاج إلى كبير عناء لمعرفة أن المقصود به هو الصين.
فالمعروف أن العلاقات اليابانية ــ الصينية متوترة وتخيم عليها هواجس وخلافات قديمة متجددة، بعضها تاريخية وبعضها الآخر جغرافية/سيادية، وبعضها الثالث بسبب روابط اليابان القوية مع تايوان وهونغ كونغ.
ومن جهة أخرى، فإن علاقات كانبيرا ببكين هي الأخرى ليست على ما يرام منذ 2018 (وإن كان التبادل التجاري بينهما مزدهراً) بسبب خلافاتهما حول الجيل الخامس (جي 5) وشكوى كانبيرا من التجسس عليها والهيمنة الصينية على بحر الصين الجنوبي المفترض أن يكون دولياً مفتوحاً، وصولاً إلى مواقفهما المتباينة من تايوان وهونغ كونغ ومنشأ جائحة «كوفيد 19»، ناهيك عن اتهام كانبيرا لبكين بتوسيع نفوذها السياسي في أستراليا عن طريق إغراء الحكومات المحلية بالانخراط في مشروع «الحزام والطريق» الصيني.
أما توقيت الحدث، فلا شك أن له علاقة بالقلق المتزايد في منطقة آسيا / الباسيفيكي مما وصفه كيشيدا بـ«بيئة استراتيجية تزداد قسوة» ربما في إشارة مبطنة إلى التقارب الروسي ــ الصيني الوثيق على هامش الحرب الأوكرانية (وصفه رئيس المخابرات الأسترالية أندرو شيرر، في مارس الماضي بالتطور المقلق الذي قد يجر إلى صراعات كبرى، مضيفاً أن قادة البلدين يخططون للهيمنة على المحيطين الهندي والهادئ)، وتهديدات بكين لتايبيه وما خلقته من توتر في مضيق تايوان، واستمرار بيونغيانغ في إطلاق الصواريخ الباليستية فوق وحول أراضي اليابان، ومواصلة الصينيين لخططهم الرامية لبناء «جيش عالمي» (دعا الزعيم الصيني شي جينبينغ إلى ذلك صراحة في مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير).
ولعل من نافلة القول إن الخطوة اليابانية الأسترالية أغضبت الصين، لا سيما وأن البلدين يملكان قدرات هائلة في مجالي الإشارة والاستخبارات الجيوفضائية والتنصت الإلكتروني والأقمار الاصطناعية عالية التقنية، والتي توفر معلومات استخباراتية ثمينة عن الأعداء. ناهيك عن أن تمكين اليابان من تقاسم معلومات الإشارة مع دولة أجنبية غير الولايات المتحدة، يشكل في حد ذاته حدثاً مفصلياً قد يسرّع انضمامها إلى «العيون الخمس» رسمياً.