إذا أتيح لك زيارة مدينة مونترو السويسرية، فلا تفوت على نفسك زيارة بلدة صغيرة، تقع على مسافة قريبة منها اسمها «فيفي». على تلة صغيرة في تلك البلدة أقيم متحف لملك الكوميديا الصامتة البريطاني الشهير شارلي شابلن، في البيت، الذي أقام فيه مع زوجته الأخيرة «أوجين أونيل»، وأطفالهما الثمانية. تم بناء المتحف في المكان، الذي عاش فيه شابلن الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة من حياته، بعد أن غادر الولايات المتحدة الأمريكية، التي عاش فيها 40 عاماً، شهدت ما وصل إليه من مجد، جعله يتربع على قمة صناعة الأفلام الصامتة في القرن العشرين.
يتألف المتحف من قسمين؛ الأول هو الدار، التي عاش فيها شابلن بعد أن تم ترميمها، والثاني مبنى منفصل على شكل ستوديو هوليوودي، هو شهادة على مسيرة شابلن السينمائية، يضم نسخة طبق الأصل من موقع تصوير فيلم «ذا غولد راش» أو «حمى الذهب»، الذي قام شابلن بتمثيله عام 1925م، كما يحتوي المتحف على الماكينة المستخدمة في فيلم الأزمنة الحديثة «مودرن تايمز»، وديكور فيلم «السيرك»، ومقاطع سينمائية من فيلم «الدكتاتور العظيم» أشهر أعمال شابلن الناطقة، بالإضافة إلى تماثيل لشابلن، وبعض أصدقائه المشهورين، مثل ألبرت آينشتاين، وونستون تشرشل.
وتحيط بالمكان حديقة جميلة، تبلغ مساحتها نحو عشرة أفدنة، تطل على البحيرة.
من رحم المعاناة تولد العبقرية، ربما لا تكون هذه قاعدة ثابتة، لكنها تنطبق على الكثير من الأشخاص، الذين تعرضوا لمعاناة كبيرة في صغرهم، خرجوا منها أكثر قوة من الذين عاشوا حياة هانئة، وبقوا أشخاصاً عاديين، مروا في الحياة مروراً عابراً، ومضوا من دون أن يتذكرهم أحد، أو يحتفي بهم أحد في حياتهم أو بعد مماتهم.
من هؤلاء الذين ولدت عبقريتهم من رحم المعاناة كان شارلي شابلن، الذي عاش طفولة بائسة، اصطبغت بالفقر والمشقة، بين أب مدمن غائب عن أسرته أغلب الوقت، وأم تكافح من أجل توفير العيش لأبنائها، تعرضت لأزمات نفسية، أدخلت بسببها مصحة الأمراض النفسية مرات عدة، تم خلالها إرسال شارلي إلى الإصلاحية قبل أن يبلغ التاسعة من عمره. هذه المعاناة جعلت شارلي يبدأ العمل في سن مبكرة من حياته، متجولاً في القاعات الموسيقية أولا، ثم ممثلاً في المسرح الكوميدي تالياً، حيث ظهرت موهبته، الأمر الذي جعل شركة «فريد كارنو» توقع معه عقداً عندما بلغ التاسعة عشرة من عمره، وترسله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ما أتاح له الاطلاع على صناعة السينما، ليبدأ نجمه في السطوع، خاصة بعد أن ابتكر شخصية «الصعلوك»، التي جعلته يكوّن لنفسه قاعدة جماهيرية، استمرت معه طوال مسيرته.
ورغم أن شارلي شابلن رفض في الثلاثينيات من القرن العشرين الانتقال إلى السينما الناطقة، إلا أنه عاد فأنتج بعضها في الأربعينيات، وكانت مشاركته في تأسيس شركة التوزيع «يونايتد آرتيست» عام 1919 مع ثلاثة من الفنانين قد جعلته يتحكم في أفلامه، التي كان في معظمها يكتب، ويخرج، وينتج، ويحرر، ويلحن الموسيقى، ويقوم بالتمثيل. في عام 1972 حصل شارلي شابلن على جائزة الأوسكار الفخرية، كونها جزءاً من التقدير لأعماله، ومقابل الأثر الكبير، الذي تركه في صناعة الصور المتحركة في القرن العشرين، وبقيت أفلامه «حمى الذهب» و«أضواء المدينة» و«الأزمنة الحديثة» و«الدكتاتور العظيم» مصنفة على قوائم أعظم صناعة للأفلام مرت في التاريخ.
وبسبب جرأته في التعبير عن معتقداته السياسية، ولانزعاجه من تصاعد النزعة القومية والعسكرية في السياسة العالمية في ثلاثينات القرن العشرين، وبسبب رفضه الحصول على الجنسية الأمريكية، رغم تحقيقه أرباحاً كبيرة في أمريكا، وإصراره على الاحتفاظ بجنسيته البريطانية، تعرض شابلن لمشاكل مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، الذي وضع اسمه على قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة، التي كان قد غادرها إلى بريطانيا، حيث قرر أن يكون العرض الأول لفيلمه «أضواء المسرح» في لندن، ورغم إبلاغه أن حكومة الولايات المتحدة لا تملك أي دليل حقيقي في منع عودته، ومن المرجح أنه قد يستطيع الدخول إذا طلب ذلك، إلا أنه رفض العودة، وقرر الاستقرار في سويسرا، حيث توفي ودفن، وأصبح له متحف، يفاخر به السويسريون، وينصبون له التماثيل، وينشرون صوره في الأماكن العامة.
«لا شيء يدوم في هذا العالم الواسع.. حتى مشاكلنا». هذه واحدة من مقولات شارلي شابلن، التي ستجدها مكتوبة على أحد الأقداح المعروضة في متجر التذكارات، الذي ستعبر منه في نهاية جولتك إذا ما زرت المتحف، وإلى جانبه ستجد قدحاً آخر مكتوباً عليه عبارة أخرى لشابلن تقول: «يوم بلا ضحك هو يوم ضائع». لا تتردد في شراء واحد منهما على الأقل، فربما كان للقهوة الساخنة فيه طعم مختلف.