يقول المعجم: تحجر، صار حجراً، ولهذا يقولون تحجر قلبه، أي خلا من العواطف الإيجابية، كالحب والرحمة.
وتحجر واستحجر بمعنى واحد. صار حجراً.
وفي علوم الجيولوجيا، التحجر حلول المعادن في أنسجة الأحياء من حيوانات ونباتات، فتصير كالحجر. ويُطلق على العصر القديم، الذي صنع فيه الإنسان أدواته من الحجارة والعظام المتحجرة العصر الحجري. ويقولون عن كائن بشري إنه متحجر، إذا لم يطور وعيه بتغير الزمان، ويظل وعيه هو هو.
ولهذا، يمكن تعريف العقل المتحجر، بأنه العقل الذي تكوّن في عالم ما وفي مرحلة ما، وامتلك أدوات تفكير من ثقافة كونته، وأغلق عقله أمام الجديد من العلم والمعرفة والثقافة، بل وسمل عينيه كيلا يرى الجديد.
ودعوني أسرد لكم القصة الواقعية التالية، التي جرت أمام عيني في إحدى القرى السورية في الستينيات.
صاحب أرض زراعية، يقوم كل خريف بحراثة أرضه الكبيرة بالمحراث التقليدي، الذي يجره ثوران. وللثورين إسطبل دائم خلال السنة كلها، ويعتني بهما صاحبهما اعتناءً كبيراً، من مأكل ومشرب وتنظيف.
وصار في القرية جرارات تحرث الأرض آلياً بزمن قصير جداً، وبدون جهد. وكان ابن صاحب الأرض متعلماً، وحاول جاهداً أن يقنع أباه ببيع الثورين، والاستراحة من رعايتهما وتكاليفها، لكن الأب كان في كل مرة يرفض رفضاً قاطعاً رأي الابن، وظل على هذا النحو حتى وفاته.
دلالة هذه القصة عميقة على الفرق بين جيلين، جيل المحراث اليدوي، الذي رفض الجديد، وجيل المحراث الآلي، الذي يؤمن بالجديد، هذا يعني أننا أمام ذهنيتين.
لو انتقلنا إلى الوعي المتحجر والوعي المتجدد، فإنه ينطبق عليه المثال السابق تماماً. فالأيديولوجيا الماضوية، تلك التي تريد أن تعيد الماضي في الحاضر، بعد أن زال الماضي وانقضى قبل ألف عام، هي أيديولوجيا معبرة عن عقل متحجر، وتكمن خطورتها في استخدام العنف، الذي لا طائل منه أبداً.
وهناك العقل المتحجر، الذي يرى عالمه المعيش أحسن العوالم الممكنة، ويقوم بحراسته، حاملاً كل أدوات القتل والنفي.
فالعالم لا يستقر على حال، وبخاصة في حياتنا الراهنة، وما تشهده من تقدم عاصف في التقنية وأدوات التواصل. فالبقاء على الحال من المحال، كما قالت العرب.
والعقل المتحجر، هو عدو الممكن المطلق. وكل عقل عدو للممكن، يشل الإرادة البشرية في تجديد الحياة.
فالبشر حين ينقلون الممكن إلى واقع، فإنهم يجددون حياتهم على نحو مستمر، وأعداء الممكن الجديد، يدافعون عن الاستنقاع، فيما العقل الطليق، هو العقل الذي لا تكف دماء الممكن عن الجريان في أنحائه.
وباستطاعتنا أن نقول بكل اطمئنان، بأن الصراع بين العقل المتحجر والعقل الطليق المتجدد، هو ذاته الصراع بين أعداء الحياة وأحباء الحياة، بين النائمين في أسرّة الأمس، وصنّاع الحاضر والمستقبل. فالعقل المبدع في كل مجالات الحياة: في العلم والمعرفة والفكر والأدب والفن والسياسة، هو عقل الحياة، فيما العقل المتحجر، هو العقبة التي تسعى لسد مجرى نهر الحياة.
سائل يسأل: هل كل تعلق بثقافة الماضي ورموزه، ينتمي إلى العقل المتحجر؟ الجواب لا.
إن في الماضي معانٍ كثيرة مرتبطة بالهوية والانتماء، فالشعر الجاهلي والأموي والعباسي... إلخ، هو جزء من إبداع الماضي، الذي ما زال حاضراً بما ينطوي على قيم جمالية وفكرية وفلسفية، ولهذا، فإن جميع الأمم تحتفل بمبدعيها السابقين، وتحيي ذكراهم باستحضارهم في مؤتمرات وندوات، فضلاً عن الدراسات التي لا تنتهي بنصوصهم، وهكذا. وقس على ذلك الفلاسفة والمفكرين.
وهناك فرق بين تقليد السلف من جهة، وقراءة السلف بوصفهم جزءاً من تاريخنا الثقافي، وبخاصة ذاك السلف الذي ما زالت إبداعاته تغني الوعي المعاصر. فأبو العلاء المعري منبع ثري، إن من حيث القيمة الجمالية أو القيمة الفكرية، لكن الإبداع لا يتوقف عند المعري، ولن يتوقف. وهكذا.
بكلمة واحدة، إن العقل المتحجر، هو العقل الذي يعبد الأصنام.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني