في الآونة الأخيرة انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو جميل لمطرب مسن يرتدي طربوشاً أحمر اللون، ويتمايل بجسمه النحيل وحركات يديه وتعابير وجهه وكأنه يطير في فضاءات النغم، وهو يؤدي أغنية «إمتى الزمان يسمح يا جميل» الخالدة التي لحنها وغناها الموسيقار محمد عبدالوهاب، من كلمات أمين عزت الهجين في ثلاثينيات القرن العشرين.
تساءل الكثيرون عن الأغنية ومؤديها، بعد أن استمتعوا بصوته الجميل وأدائه الرائع المتميز بالتلقائية، وكأنما اكتشفوا شيئاً جديداً ويريدون اكتشاف أشياء أخرى ذات صلة.
والحقيقة أن مؤدي الأغنية شخصية فنية عظيمة ذات تاريخ حافل بغناء الموشحات والمقامات والأدوار القديمة والغناء الديني والصوفي والقدود الحلبية منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن طواها النسيان وسط موجة الطرب الهابط والأصوات النشاز في العقود الأخيرة.
الحديث هنا عن الحاج صبري أحمد مدلل، الملقب بـ«شيخ مطربي الشام»، و«الحارس الأمين على التراث الغنائي الحلبي»، وغيرها من الألقاب الفخمة التي استحقها بجدارة، ليس لجمال ورخامة وقوة صوته وكثرة أعماله فحسب وإنما أيضاً لأسلوبه الساحر في اللحن والأداء شكلاً ومضموناً، وإجادته فن التلاعب بالمقامات الموسيقية وإضفاء لونه الخاص عليها، ناهيك عن قدرته الفذة على الجمع بين الطرب والتعبير.
ولد مدلل في حي الجلوم بمدينة حلب السورية سنة 1918، ومات فيها بمرض عضال سنة 2006، تاركاً وراءه تاريخاً مليئاً بالإبداع والاستقامة والأمانة والتواضع. بدايته كانت من خلال تلاوة القرآن الكريم بصوته الشجي، ومنها انتقل إلى الإنشاد الديني في حلقات الذكر وأداء الموشحات القديمة، وهو في سن السادسة.
وفي الثانية عشرة دفعه والده إلى المعلم عمر البطش، الذي رعاه وقاده عام 1945 إلى إذاعة حلب، التي انضم فيها إلى الكورس وغنّى من خلالها أيضاً على الهواء أغنيتي «ابعث لي جواب» و«يجي يوم وترجع تاني» من ألحان بكر الكردي وكلمات الشاعر حسام الخطيب، ثم ترك الإذاعة عام 1954 بطلب من والده، لينشئ فرقة إنشاد دينية راحت تحيي الحفلات الدينية في الجوامع.
وفي عام 1975 شهدت فرقته قفزة نوعية، حيث أدخل مدلل إليها تختاً موسيقياً، وبدأ بتقديم الغناء التراثي الطربي إلى جانب الإنشاد الديني. وفي العام نفسه نظمت للفرقة حفلة في قصر الثقافة بباريس، فكانت تلك بداية عهد الإنشاد الديني في أوروبا.
وبعدها دعيت الفرقة إلى مهرجان الموسيقى العربية سنة 1986، فأثبتت قدرتها، وظهرت معها أهمية الحاج صبري مدلل بوصفه علماً غنائياً، لينتشر اسمه ويدعى للمشاركة في العديد من المهرجانات المحلية في سوريا، والمهرجانات العربية في قرطاج وبيروت والقاهرة وجرش والقرين (الكويت)، ناهيك عن جولات ومهرجانات أوروبية في فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا والنمسا وسويسرا واليونان، إضافة إلى مهرجان الفن الآسيوي في هونغ كونغ، لكن المؤسف أن شهرته خارج وطنه جاءت متأخرة، ولم تتحقق إلا وهو في العقد الثامن من عمره.
حافظ مدلل على التراث الموسيقي الأصيل، وعرف عنه إعجابه بالألحان الرصينة وما أتقن صنعه فقط، وانصرافه عن كل ما لا يقتنع به، وقيامه بتطوير الإنشاد الديني وإلباسه ثوباً جميلاً مختلفاً عن الدارج من خلال استلهام أعمال سيد درويش والقصبجي ومحمد عبدالوهاب وداوود حسني وآخرين ممن كان المسجد هو المدرسة التي تخرجوا فيها ملحنين، أمثال زكريا أحمد وسلامة حجازي والشيخ أبو العلا محمد. كما عرف عنه مرحه وحبه للقفشات والطرائف وإطلاق المواويل الجميلة، وحسن اختيار القصائد الشعرية والدندنة بها بما يخطر على باله من ألحان.
كتب عنه الأديب المصري جمال الغيطاني في يومياته بصحيفة الأخبار القاهرية قائلاً: «ثمة شيء في صوته وهيئته يذكرنا بصالح عبدالحي، لكنه أكثر حيوية، وإذا كان صباح فخري امتداداً معاصراً للغناء التراثي القديم، فإن صبري مدلل هو التراث نفسه يمشي على قدمين، ويتنفس برئتين، ويشدو بحنجرة قوية متمكنة رائعة الجمال».
وكتب عنه أيضاً عبدالمحسن الشمري بصحيفة القبس الكويتية بمناسبة مشاركته في مهرجان القرين عام 1998 (آخر مشاركاته الخارجية) قائلاً: «صبري مدلل الذي عجنته الأيام ويحب الفن والغناء الأصيل قدم لجيل هذه الأيام من أصحاب الأصوات اللاهثة درساً في الأداء».