يبدو أن ما أفسدته السياسة على مدى عقود من الزمن، ستقوم الرياضة بإصلاحه، بعد سنوات من فشل كل الجهود التي بُذلت من أجل ذلك حتى الآن. ولنا في آخر حدثين رياضيين تم تنظيمهما في منطقتنا العربية خير مثل وأكبر دليل. ففي النسخة الثانية والعشرين من بطولة كأس العالم، التي جرى تنظيمها في قطر ذابت جبال جليد كثيرة، وتجلت روح الترابط بين الشعوب العربية وهي تقف خلف منتخبات السعودية وقطر والمغرب وتونس، وتبني آمالاً كبيرة على المنتخب المغربي، الذي حقق إنجازاً غير مسبوق بصعوده إلى الدور نصف النهائي، وهو إنجاز لم يحققه أي منتخب آخر منذ تاريخ مشاركات العرب في البطولة منذ انطلاقها.
أما الحدث الثاني فهو بطولة كأس الخليج العربي الخامسة والعشرون، التي تطوي أوراقها يوم الخميس المقبل، بعد أن استضافتها مدينة البصرة العراقية. فقد شكلت هذه الاستضافة منحنى مهماً في علاقة شعوب المنطقة، لم تستطع تحقيقه الجهود التي بُذلت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، هي الفترة منذ أن غزا نظام صدام حسين الكويت واحتلها عام 1990، قبل أن يتم تحريرها وإخراجه منها، تاركاً في نفوس شعوب المنطقة خرقاً عميقاً لم تستطع رتقه محاولات كثيرة، لتأتي الرياضة بما لها من سطوة وسلطان، فتحدث هذا الأثر الطيب الذي لمسناه جميعاً على مدى أيام البطولة التي كان لإقامتها في العراق في هذا التوقيت أثر بالغ، لأنها ترسل إلى أولئك الذين ظنوا أن العراق قد خرج من ثوبه العربي رسالة ذات معنى عميق.
صحيح أن نتائج ومستويات أغلب المنتخبات المشاركة في البطولة كانت مخيبة للآمال، على خلاف الدورات الأولى، التي كانت تشهد تنافساً مثيراً تقوده شخصيات رياضية كبيرة لها اسمها ومكانتها وتأثيرها، وترفع حرارته مستويات المنتخبات المشاركة فيها، التي صنعت أسماء كبيرة في تاريخ كرة القدم الخليجية، لم تجُدْ بمثلها الملاعب حتى اليوم، وصحيح أن الدول لم تعد تولي البطولة الاهتمام الكافي الذي كانت تجده في السنوات الأولى من بداية تنظيمها وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، وصحيح أن أكثر من دولة أرسلت إلى هذه الدورة منتخباتها الرديفة، وليست الأولى، فكان هذا سبباً في ضعف مستوى المباريات، لكن الصحيح أيضاً أن رحابة صدور الأشقاء العراقيين المستضيفين للبطولة قد غطت على هذه السلبيات، وحولت البطولة إلى مناسبة لبث الحرارة في علاقة الشعب العراقي بشعوب دول الخليج العربي، بعد أن عملت بعض الجهات على إفساد هذه العلاقة، وانتزاع العراق من محيطه العربي والخليجي الذي طالما كان عنصراً أساسياً ومهماً فيه.
كانت هذه هي المرة الثانية التي ينظم العراق فيها بطولة كأس الخليج العربي، منذ أن قام بتنظيم البطولة الخامسة عام 1979، فقد حالت الظروف التي مر بها العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو الكويت وتحريرها، إلى الاحتلال الأمريكي للعراق، وحالة الفوضى التي مر بها بعد الاحتلال، حالت كل هذه الظروف دون منحه الفرصة لتنظيمها مرة ثانية، وكان مقرراً أن تقام النسخة الثالثة والعشرون من البطولة عام 2017 في العراق، لولا أنه جرى سحبها منه بسبب الحظر الذي فرضه الاتحاد الدولي لكرة القدم على الكرة العراقية وقتها، ليأتي تنظيم النسخة الخامسة والعشرين منها في البصرة معبراً عن شوق الجماهير العراقية لاستضافة أشقائهم من دول الخليج العربي، وشوق الجماهير الخليجية لرؤية منتخباتها الوطنية تلعب على الأرض العراقية. وقد تجلى الكرم العراقي خلال هذه البطولة، وظهرت له صور كثيرة يصعب حصرها، وهي ليست غريبة على الشعب العراقي الكريم.
من الأغنيات الجميلة التي اشتهرت أثناء إقامة بطولة كأس الخليج الخامسة في العراق عام 1979، أغنية الفنان العراقي سعدون جابر «هلا بيك هلا» من كلمات الشاعر كريم العراقي. ورغم أن الأغنية كانت لتشجيع منتخب العراق، إلا أن مقطعاً فيها يقول:
مو همنا الفوز.. تجمُّعنا الهدف
بقلوب طيبة.. نلاقي الأحبة
هذا المعنى تَجسَّد بشكل واضح في هذه البطولة التي أعادت الجماهير الخليجية إلى العراق الحبيب، وأعادت العراق إلى الجماهير الخليجية التي اشتاقت للعراق وأهله. صحيح أن العراق لم يغادر قلوب أهل الخليج العربي، لكن هناك محطات نحتاج المرور عبرها، لنعيد عربات قطارنا إلى المسار الصحيح، وبطولة كأس الخليج العربي الخامسة والعشرون في البصرة كانت واحدة من هذه المحطات المهمة.
* كاتب وإعلامي إماراتي