تحول شغف الناس في شتى أرجاء الأرض من متابعة أخبار وتطورات السياسة والفن والمجتمع صوب الاقتصاد.
فحين تتعثر لقمة العيش، أو تلوح في الأفق مجرد احتمالات لتعثرها أو حتى تغير مكوناتها، يعيد البشر ترتيب أولياتهم واهتماماتهم بشكل فطري.
متابعة الأخبار العالمية والمحلية على مدار الأشهر القليلة الماضية، ولا سيما منذ شهر ديسمبر الماضي، تخبرنا أن أوضاع العالم الاقتصادية في حالة حراك شديد. تختلف الدرجة من دولة إلى أخرى ومن اقتصاد إلى آخر، لكن العين المجردة تخبرنا أن تغيرات كبرى تحدث وأخرى أكبر في الطريق.
العالم يواجه مجموعة المخاطر التي تبدو جديدة تماماً، لكنها مألوفة بشكل مخيف، هكذا يخبرنا تقرير المخاطر العالمية 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
يتحدث التقرير عن وقوف العالم على شفا عصر سمته نمو وتعاون منخفضان. ويتساءل التقرير بنبرة تحذير عن قدرة دول العالم على الحفاظ على ما تم إنجازه على صعد مثل تغير المناخ، ودعم التنمية البشرية والقدرة على الصمود في المستقبل.
مستقبل الاقتصاد القريب، وتحديداً خلال العام الجاري، لا يحمل أيضاً نقاطاً مضيئة كثيرة. المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا قالت قبل أيام، إن ثلث الاقتصاد العالمي معرض للركود، وإن العام الحالي سيكون أصعب مما قبله حيث اقتصادات الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي والصين ستمر بفترة تباطؤ.
لكن الجانب المضيء يكمن في الناس. «فطالما الناس يعملون، حتى لو كانت الأسعار مرتفعة، فسينفقون» حسب قولها. تبدو الكلمات بسيطة، والفكرة عادية، لكنها في حقيقة الأمر كلمات رائعة والفكرة مذهلة.
والفكرة من الحياة لا تتوقف عند بديهية العمل اليوم لضمان لقمة العيش غداً، وإلا أصبحت حياة بالغة الرتابة منزوعة الأماني والأحلام والترقي. الفكرة من الحياة هي ضمان لقمة عيش مستدامة تضمن الشبع وتأمين حزمة من أساسيات الحياة من تعليم وصحة وسكن وترفيه ذات حد أدنى من الجودة لا يسمح لها بالحياد عنه.
هذه الحزمة القابلة للنمو والازدهار وضم المزيد من الخدمات ومصادر السعادة والانتقال من مرحلة توفير الأساسيات إلى إتاحة الرفاهيات، أشبه بالكائن الحي الذي يحتاج رعاية واهتماماً ودعماً عبر التخطيط والإبداع. وهذا ما يصنع الفروق الجوهرية بين دول وأخرى.
سنة العالم أن تكون هناك دول كبرى من حيث المساحة وعتاد الجيوش واقتصادات قوية، وأن تتدرج بقية الدول في ترتيب هرمي كل بحسب إمكاناتها وقدراتها. والحقيقة أن العقدين الماضيين غيرا كثيراً من مفاهيم وتعريفات القوة. بزغت دول أخرى من خارج التصنيف الكلاسيكي للدول القوية، وفرضت نفسها كيانات مؤثرة وصاحبة قدرة على تعديل معاني ومفردات القوة.
مفردات القوة في عام 2023 تفرض نفسها جنباً إلى جنب مع توقعات الاقتصاد التي تطغى عليها القتامة الأممية. فالعالم ليس أمريكا والاتحاد الأوروبي والصين فقط. صحيح إنها دول قوية واقتصاداتها وأنظمتها السياسية تتحكم في الكثير من مقاليد أمور العالم، لكن العالم يتغير.
ففي خضم هذا الكم من تواتر توقعات الركود هنا ووتيرة النمو المتباطئ أو السلبي هناك، يشير البنك الدولي إلى أن اقتصاد الإمارات سيكون قادراً على مواصلة زخم نموه بوتيرة قوية. وثبت البنك توقعاته الخاصة بنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للإمارات خلال 2023 عند 4.1 في المئة.
لماذا يتوقع البنك الدولي هذا الأداء القوي للإمارات في عام 2023 في الوقت الذي خفض فيه توقعات النمو العالمي للعام الجاري إلى 1.7 في المئة مقارنة بثلاثة في المئة التي كانت متوقعة قبل ستة أشهر؟
بين مبادئ المرونة والديناميكية القائم عليها الاقتصاد في الإمارات (وهي المبادئ القادرة على امتصاص الصدمات والأزمات غير المتوقعة بشكل أفضل من الأنظمة الجامدة مهما بلغت من قوة وبأس)، وتعدد مكونات الاقتصاد مع دور محوري للمكون غير النفطي، واستمرار اعتبار البيئة الاقتصادية الواعدة والمرنة أولوية كبرى، يحق للإمارات أن تقدم نفسها نموذجاً يحتذى في مثل تلك الأوقات بالغة الصعوبة عالمياً.
القوانين الاقتصادية مرنة، والعملة مستقرة، ولا قيود على إعادة تصدير الأرباح أو رأس المال، والتشريعات الضريبية مناسبة، والمناطق الحرة والاقتصادية متوافرة، وكلفة العمالة تتميز بالتنافسية ومكونات وصفة النجاح والنجاة كثيرة.
ولأن استدامة النجاح أصعب من تحقيقه، فإنها تحتاج تقييماً وتحديثاً واستمراراً لدعم البيئة المواتية.
تحقيق هذا النجاح في ظل ظروف عالمية ضغطت على أقوى اقتصادات العالم، ورغم ذلك لم تتوقف عند مرحلة الاحتفاء بالنجاح. وبراهين التقييم والتحديث والاستمرار عدة، وتأتي على رأسها «أجندة دبي الاقتصادية»، لا من حيث المحتوى فقط، ولكن التوقيت. مضاعفة حجم اقتصاد دبي في العقد المقبل وتعزيز موقعها ضمن أفضل ثلاث مدن اقتصادية في العالم يعني الكثير.
* كاتبة صحافية مصرية