تقوم الدولة الوطنية على أسس متينة ومخرجات متميزة، تهدف إلى بناء مجتمع مستقر ومزدهر، يتميز بوحدة نسيجه الاجتماعي، ويتحلى فيه كل فرد بقيم المواطنة الإيجابية الصالحة.

ولذلك يتميز هذا المجتمع بالسلام والوئام، يعيش فيه كل فرد بطمأنينة واستقرار، مصون الكرامة، محفوظ الحقوق، سالماً على نفسه وماله وعرضه، لا يعتدي عليه أحد، ولا يعتدي على أحد، بل كل فرد في هذا الوطن لبنة من لبناته جنباً إلى جنب مع غيره، حتى يصير الوطن في قوته واجتماعه كالبنيان المرصوص.

ولكي تصبح الأوطان هكذا أسواراً منيعة ومشاعل مضيئة ينبغي العناية بمخرجات الدولة الوطنية التي تحقق هذه الغايات والأهداف المنشودة، ومن أهمها نزع فتيل الطائفية في المجتمعات.

والتي تخلخل نسيجها، وتمزق وحدتها، وخاصة إذا انزلقت إلى مسارات تغذي التعصب والاحتقان، فيصبح المجتمع على شفا بركان ثائر، فإذا تحولت الطائفية إلى عنف وصدام ثار هذا البركان، وأتى على الأخضر واليابس، وكانت النتيجة أن يخسر الجميع، فإن هذه الحمم إذا ثارت تقاذفت في كل اتجاه، واستهدفت الجميع من دون تفريق بين طائفة وأخرى، وانهدم الوطن على رأس كل من فيه.

وأول ما ينبغي ونحن نتحدث عن هذا الموضوع أن نبين أن وجود الانتسابات الدينية والفكرية وحتى الرياضية وغيرها أمر موجود في المجتمعات بمقتضى الأمر الواقع، ولذلك فإن من الأهمية بمكان ألا تتحول هذه الانتسابات إلى صراعات، وذلك يقتضي بالضرورة من أصحابها أن يحسنوا إدارة اختلافاتهم مع الآخرين، من دون أن يؤدي ذلك إلى تعصب وصدام واحتقان واعتداء على الطرف الآخر وإهدار لحقوقه.

ومن أهم ما يساعد على ذلك جنباً إلى جنب مع سن الأنظمة والقوانين الارتكاز على الأخلاق الحميدة، باعتبارها مظلة أساسية في التعامل بين الناس، وهي مظلة نابعة من ضمائر الأفراد ووجدانهم، بحيث يعلم كل فرد بأنه لا تعارض بين انتسابه الديني أو الفكري أو غيره وبين حسن تعامله مع الآخر وفق الأخلاق الحميدة.

كالصدق والعدل والوفاء والعفو والتعاون والإحسان وغيرها، ومتى سادت هذه القيم الأخلاقية في المجتمعات انزوت الطائفية وخبت نيرانها، ومتى غلب التعصب على الأخلاق وقع الإنسان في هاوية الطائفية، وأصبح مهدداً لوطنه ومجتمعه.

وقد ضرب نبينا صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في استصحاب الأخلاق الحميدة، مع من وافقوه ومن خالفوه، بل مع من عادوه وآذوه، فهو الصادق الأمين معهم قبل أن يعادوه وبعد أن عادوه، صبر على إساءاتهم، وعفا عنهم عندما قدر عليهم، فاستحق الوصف القرآني: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وقد أكد القرآن الكريم مبدأ استصحاب الأخلاق الحميدة في مختلف المواقف والظروف، مع الموافق والمخالف، فقال عز وجل:

{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، وانطبعت هذه السلوكيات المثلى في نفوس الرعيل الأول، فهذا عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ذُبحت له شاة، فقال: «أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟»، وهذا ارتقاء في التعامل مع الآخر من مجرد حفظ حقوقه العامة إلى حفظ حقوقه الخاصة المتمثلة في حق الجيرة والعناية بالكرم والجود والإحسان.

ومن الأمور الضرورية كذلك لنزع فتيل الطائفية الالتزام بالخطاب الوسطي المعتدل المنضبط، فإذا كان مِنْ حَقِّ الوطن على من تعلَّم ودرس، سواء تلقى تعليمه داخل الوطن أو خارجه، أن يسخر هذا العلم وتلك المهارات لصالح وطنه، سواء كان ذلك علماً شرعياً بشتى فنونه، أو علماً دنيوياً بشتى فنونه.

فإن من الواجب عليه أن يقدمه بعيداً عن أي أيديولوجيات دخيلة أو أجندات طائفية أو تحزبات منافية لانتمائه الوطني، وأن يلتزم بالمسار العلمي والحوار الإيجابي في خطابه، بحيث يحقق مبدأ المواطنة الصالحة في نفسه، ويعزز مخرجات دولته الوطنية، ويحافظ على وحدته وتلاحمه، بعيداً عن أي مسار ينحرف بخطابه إلى مزالق طائفية، فيصبح مهدداً من مهددات الضرورات الخمس الكبرى.

ومن وجهة نظرنا المتواضعة، فإن كل من يقوم بالتغذية الطائفية، بحيث يخرج عن دائرة الخطاب المنضبط والحوار العلمي إلى دائرة الصدام والعداء المنفلت، فهو يُعد بخطابه مهدداً للدولة الوطنية، ومؤشر خطر إلى أمنها الوطني.

* كاتب إماراتي