إذا كان لنا أن نأخذ تصريحات رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي، التي قال فيها: إن «الحرب الروسية في أوكرانيا من المرجح أن تنتهي بمفاوضات وليس في ساحة المعركة»، فعلينا أن نفكر في «حرب» تنتظر المفاوضات.
في الواقع، بعض بقية كلام الجنرال مارك ميلي، يؤيد هذا الاستنتاج؛ فقد ركز على خلاصة مفادها: «من وجهة نظر عسكرية، ما زلت أصر على أنه سيكون من الصعب جداً جداً في هذا العام إخراج القوات الروسية من كل شبر في أوكرانيا».
ويلفت الانتباه ما ورد في نهاية كلامه إذ قال: «ما يمكن أن يحدث هو الاستمرار في الدفاع وتحقيق الاستقرار في جبهة القتال، وأعتقد أنه من الممكن القيام بذلك، ويعتمد هذا على التدريب وتسليم كل هذه المعدات». وأضاف: «أعتقد أنه من الممكن جداً جداً للأوكرانيين أن يشنوا عملية هجومية لتحرير أكبر قدر ممكن من الأراضي».
هنا، يمكن لمن يجيدون ويهتمون بقراءة ما بين السطور أن ينتبهوا إلى «جداً جداً»، فهو تعبير صدر عن الجنرال مرتين في دقيقة واحدة؛ قالها أول مرة مؤكداً قناعته أن «من الصعب جداً جداً في هذا العام إخراج القوات الروسية»، وقالها المرة الثانية في سياق حديثه عن إمكان شن عملية هجومية أوكرانية.
ومن المفيد أن نعلم أن الجنرال كان يتحدث في مؤتمر صحافي أعقب اجتماع حلفاء أوكرانيا في ألمانيا. ذلك الاجتماع نفسه، الذي استبقته «البنتاغون» بالإعلان عن حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 2.5 مليار دولار لأوكرانيا، تشمل أول مرة مركبات مدرعة من طراز «سترايكر» والمزيد من «برادلي».
الجنرال الأمريكي يأمل تحقيق إنجازات على الأرض، لتهيئة الظروف المناسبة للدخول في مفاوضات تأتي إليها روسيا مضطرة. ويرى أن الطريق إلى هذا تنظيم هجوم أوكراني، غير مسبوق، حسب تعبيره.
وفي الجانب الآخر، في أوكرانيا، وعلى نحو مفاجئ عاكس مستشار الرئيس الأوكراني الرواية الرسمية قائلاً: «إن القصف الذي استهدف مدنيين في مدينة ديبنربتروفسك، أوكراني، وليس روسياً».
خرق تقاليد التأكيد على «الجبهة الداخلية المتماسكة الموحدة» لم يتوقف عند هذا الحد؛ ففي الوقت الذي نشرت وسائط إعلام أوكرانية هذه التصريحات على نطاق واسع، قابلتها من جهة أخرى وسائل إعلام أوكرانية أخرى تهاجم مستشار الرئيس فلوديمير زيلنسكي وتتهمه بالخيانة، في سجال اضطره في النهاية إلى تقديم استقالته، ورسم شكوكاً في مقولة «الجبهة الداخلية متماسكة وموحدة» ضد روسيا.
ومن جانب، ثالث، وفي ذروة الحرب تصبح مكافحة الفساد، أولوية قصوى في أوكرانيا. وأكثر من هذا، فإن حملة مكافحة الفساد هذه تطيح، أول من تطيح، وزير الدفاع، وهذا يفتح الباب أمام أسئلة عديدة عن الأسباب التي اضطرت دولة في حالة حرب إلى فتح الباب أمام هذا الملف.
إذن، ما الذي يجري..؟
هناك تصورات وتقديرات الجنرال الأمريكي المرموق، وأيضاً حملة مكافحة فساد في أوكرانيا على المستوى الأعلى، طالت شخصيات فاعلة في قيادة الحرب. وهذا يقودنا إلى استنتاج أن الأمريكيين ربما يعتقدون أن هناك فرصة أخيرة لفرض شروطهم، ولديهم في هذا الاتجاه سيناريو هجوم غير مسبوق يبدو أنه قيد التجهيز. وهذا السيناريو لم يعد يحتمل أي تعدد في وجهات النظر أو الآراء المختلفة على مستويي القيادة السياسية والعسكرية في أوكرانيا.
وللوهلة الأولى يبدو الأمر محيراً؛ قبل أسابيع قليلة، وجهت الاستخبارات الروسية إلى الغرب، إشارات علنية مسبقة تفيد بعلمها بكل ذلك. ولكن يبدو أن القرار الأمريكي ليس مرناً بالقدر الكافي ليعدل نفسه في ضوء المستجدات، أو لربما هي إرادة ورغبة أقوى من التنبيهات.
ولذا، فنحن في الواقع لا نستطيع أن نخمن: هل هذه حرب تنتظر المفاوضات، أم ستتطور حسب المستجدات؟
* كاتب أردني