«ما من وجه قصدته، وعدو أردته، إلا استعنت بالله عليه، ولما كان أمس صعدت على تل فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلت في نفسي: أنا ملك الدنيا ولا يقدر أحد عليّ، فعزرني الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله تعالى وأستقيله من ذلك الخاطر». كان هذا هو آخر ما نطق به السلطان السلجوقي «ألب أرسلان» قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، كما جاء في كتاب «الكامل في التاريخ» لابن الأثير.
لم يكن «ألب أرسلان» سلطاناً عادياً، فقد كان واحداً من أهم القادة المسلمين وكبار رجال التاريخ، وكان من ألقابه سلطان العالم وضياء الدنيا والدين وعضد الدولة، وكان معنى اسمه باللغة التركية «الأسد الباسل». تمكن السلاجقة في عهده من فتح بلاد الكرج وأرمينيا وجزء كبير من آسيا الصغرى، واكتسحوا الشام، وهزموا البيزنطيين في معركة «ملاذكرد» وأسروا الإمبراطور «رومانوس ديوجينيس» البيزنطي، فكيف يمكن أن يموت بطل تاريخي مثله بالطريقة التي مات بها؟
تقول الروايات إنه أثناء تقدم جيش «ألب أرسلان» نحو سمرقند، وبعد اجتيازه نهر جيحون بمئتي ألف فارس، وقفت أمامه إحدى القلاع صامدة غير بعيد عن النهر، وما كان لجيش بهذا العدد وقائد منتصر مثل «ألب أرسلان» أن يتجاوز تلك القلعة دون أن يكتسحها. كانت مقاومة القلعة عنيفة إلى الدرجة التي أحرجت جيش السلطان، وكان بطل تلك المقاومة داخل القلعة قائد خوارزمي يدعى يوسف. وبعد مقاومة باسلة سقطت القلعة ووقع قائدها في الأسر بعد أن جُرِح، واقتيد إلى السلطان المزهوّ بانتصاره. كان السلطان في أشد اللهفة لرؤية ذلك الرجل الذي سبّب لجيشه كل تلك المتاعب، وكانت دهشته عظيمة عندما مثل أمامه رجل قصير القامة ضامر الجسم أشعث أغبر.
وقف الرجل منتصب القامة مرفوع الرأس بين عملاقين من جند السلطان أمسكا ذراعيه بقوة، وكان السلطان يجلس متربعاً فوق سدة من خشب مفروش بالطنافس. نظر كل من الرجلين إلى الآخر نظرة تحدٍّ، ثم حانت لحظة الحساب، فأصدر السلطان حكمه بإعدام القائد الأسير، آمراً بأن تُغرَس أربعة أوتاد ليربط عليها ويُفسَخ. نظر يوسف إلى السلطان من أسفل إلى أعلى وصاح: أهذه معاملة يُعامَل بها من قاتل قتال الرجال؟ لم يردّ السلطان، بل أدار وجهه، فخاطبه الأسير قائلاً: أنت أيها «.......» إني أوجه الخطاب إليك. هنا أصابت الكلمة القبيحة التي نطق بها الأسير مقتلاً في نفس السلطان وشعر بالإهانة، فتناول قوسه التي كان ماهراً في استخدامها ووتر بها سهماً، وقبل أن يطلق السهم أمر الحراس بفك قيد الأسير. الأرجح انه لم يشأ أن يقال إنه صوّب على أسير مقيد، لا خشية أن يطيش السهم فيصيب أحداً من الحراس، فقد كان واثقاً من مهارته، وهو الذي ما أخطأ في حياته التصويب على هدف قط.
شيء يصعب تفسيره حدث في تلك اللحظة، فالسلطان الماهر في استخدام القوس، الذي لم يطش له سهم أبداً، خانته مهارته للمرة الأولى، أو ربما تخلى الحظ عنه. هل كانت سورة الغضب، أم هي نظرة التحدي في عين غريمه، ما جعل السهم ينطلق بعيداً عن الهدف القريب الذي كان قد تحرر من حرّاسه بأمر السلطان؟ هنا لاحت فرصة العمر التي ما كان ليوسف أن يفوّتها، فانقض على السلطان تدفعه الرغبة في النيل منه قبل أن يلقى حتفه، ولم يكن بوسع السلطان أن يضع سهماً آخر في القوس، فقد أذهلته المفاجأة وباغته غريمه، وفيما هو يحاول الإفلات منه عثرت رجلاه بإحدى الطنافس فانكّب على وجهه، وفي لمح البصر كان يوسف ينقض عليه بسكين احتفظ بها مخبّأةً في ثيابه، ويسدد إليه طعنة في خاصرته قبل أن تصل إليه هراوة أحد الحراس لتصرعه ويمزق الجنود جسده، بينما كانت ابتسامة ترتسم على شفتي الأسير الذي تمكن من الانتقام لنفسه قبل أن يلقى مصرعه. بعد أربع ليال من الاحتضار مات السلطان «ألب أرسلان».
هل قتل السلطانَ غرورُه وإعجابُه بقوته، أم قتله الاستخفاف بغريمه، أم أن ثمة شيئاً آخر كان سبب مصرعه؟
لقد سمع البعض خان سمرقند «شام المُلك نصر» يردد في مجلسه، بعيداً عن مسمع زوجته، بعد أن أقام صلاة الغائب عل روح السلطان: «لقد استجاب الله لدعوات أهالي سمرقند».
كان الخان متزوجاً من «عائشة خاتون» ابنة السلطان، وكان ابن السلطان، الذي خَلَفهُ على العرش، «ملك شاه» متزوجاً من «توركان خاتون» أخت الخان، فسبحان الذي كل يوم هو في شأن.
* كاتب وإعلامي إماراتي