يعمد البعض إلى وضع صور قديمة لمدنهم، تعود إلى فترة الخمسينيات وما قبلها من القرن الماضي، تظهرها مدناً عصرية ذات مبان جميلة، وشوارع واسعة، وميادين فسيحة تحف بها الأشجار والورود من كل ناحية، ويضعون بجانبها صوراً لمدننا، التي كانت في تلك الأزمنة صغيرة تنتشر فيها الخيام المبنية من الشعر، تحيط بها صحراء قاحلة على مد البصر، أو من سعف النخيل تقع على سواحل بحار لم تعمل فيها يد الإنسان بعد، ثم يرسلون حسراتهم على ما وصلت إليه بلدانهم اليوم من خراب ودمار بفعل الإدارات الفاشلة والفساد والصراعات والحروب الأهلية، وما غدا عليه بلدنا من عمران ونهضة، حتى أصبح نموذجاً للبلدان العصرية المتقدمة.
ربما على خلاف الكثيرين، أجد العذر للذين يفعلون ذلك، وأستثني منهم الحاقدين والحاسدين وذوي القلوب السوداء والنوايا الشريرة، فالأمر لا يخلو من أصحاب نيات طيبة يهدفون إلى تنبيه أهلهم وحكامهم إلى أنهم يدمرون بلدانهم بأيديهم، ويهدرون ما تعب السابقون في بنائه بخلافاتهم وأطماعهم وقيادتهم الخاطئة لبلدانهم، والزج بها في حروب وصراعات تعيدها إلى الوراء كثيرا، وتهدر مواردها وطاقاتها وأرواح أبنائها فيما لا فائدة تعود منه على تلك البلدان وأهلها ومستقبل أبنائها.
هذه النظرة إلى النصف المملوءة من الكأس هي التي يجب أن تدفعنا إلى عدم الرد على كل الذين ينشرون مثل تلك الصور ويعقدون مقارنات تثير حزنهم، لكنها تجعلنا أكثر ثقة في الطريق الصحيح الذي سلكه آباؤنا المؤسسون عندما قرروا أن يقف الماضي عند نقطة محددة، وأن يبدأ المستقبل من تلك النقطة، دون نسيان ذلك الماضي لأن من لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل، كما قال القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ثم أخذوا يفكرون ويخططون ويعملون من أجل تدارك ما فاتهم مما سبقتهم إليه تلك البلدان والدول، غير حاقدين ولا حاسدين، فرقيّ دولتهم، بعد توحدهم، هو هدفهم الأسمى، ورفاهية شعبهم هي غايتهم العظمى، وبناء وطنهم لتعويض ما فاته هو دافعهم الأول، ينظرون إلى تجارب الدول التي سبقتهم، فيأخذون المفيد منها، وينبذون الضار الذي يعيق تقدمهم. لهذا تقدمت دولتنا وأصبحت خلال فترة وجيزة تنافس الدول التي سبقتها إلى النهضة، بينما تراجعت تلك الدول لأنها وقفت عند نقطة محددة أيضاً، لكنها مضت تهدم ما بنته خلال سنوات وعقود سابقة، ولا تولي بناء المستقبل أهمية، حتى وجدت شعوبها نفسها في هذا المأزق، فتوزعت بين حاسد حاقد يرمي أسباب فشله على غيره، وبين متألم حزين يبكي على الماضي وهو يستعرض صوراً بهتت ألوانها، بعد أن كانت ذات يوم زاهية الألوان مبهجة.
حين فكر قادة الإمارات في بناء هذه الدولة لم يفكروا في الأسفلت والحجر فقط، وإنما فكروا في عقول البشر أيضاً، ذلك أنه مهما أنجز الإنسان من عمل أو رفع من بناء، فإنه إن لم يستطع إدارة منجزاته هذه بأسلوب حضاري متقدم فإن مصير ما أنجز إلى التراجع، لهذا كان التركيز على تطوير الفكر الإداري يسير جنباً إلى جنب مع بناء مرافق الدولة المختلفة، ولهذا جاءت توجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عام 2013 بتأسيس القمة الحكومية، كي تكون منصة تهدف إلى استشراف مستقبل الحكومات، وفي عام 2015 تم الإعلان عن تغييرات رئيسية لنقل القمة إلى مستوى عالمي، وشملت التغييرات تغيير اسم القمة من القمة الحكومية إلى القمة العالمية للحكومات، واعتماد هدف تقديم خدمات معرفية متكاملة لأكثر من 150 حكومة ومنظمة عالمية، لتصبح القمة بهذا منصّة عالمية لتبادل المعرفة بين الحكومات، تسعى لاستشراف مستقبل صنّاع السياسات ومجتمع الأعمال والمجتمع المدني من خلال استعراض أحدث الابتكارات في الخدمات الحكومية.
وخلال السنوات العشر الماضية، التي شكلت عمر القمة، كانت الحوارات تأخذ منحى متقدماً يواكب التطور الهائل الذي يشهده العالم والبشرية في كل نواحي الحياة، وكان المتحدثون فيها على قدر عالٍ من المكانة السياسية والاقتصادية والإدارية والأكاديمية، فتحدث فيها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وتحدث فيها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، وتحدث فيها عدد من الشيوخ والوزراء، وعدد من القادة والرؤساء وكبار المسؤولين والخبراء والعلماء.
إدارة المنجزات فن لا يقل أهمية عن إدارة الأزمات، وهذا ما يجيده ويتميز به قادة الإمارات، وعلى الآخرين أن يتعلموا منهم بدلاً من البكاء على اللبن المسكوب.
* كاتب وإعلامي إماراتي