تنطوي الحياة اليومية على كثير من الظواهر غير المرضية والمتعارضة مع القيم الأخلاقية والصدق في القول والخبر. وفي ظني أن نقد الحياة اليومية بما فيها من سلبيات بات أمراً ضرورياً، لعل في نقد كهذا تعزيزاً للقول الحق ولقيمة الصدق. تقول العربية في تقويم شخص ما: له ما له وعليه ما عليه. و«له ما له جملة» تنطوي على المدح و«عليه ما عليه» تعني الذم.

والحكم على شخص بما له وبما عليه، اعتراف به، وبصفات إيجابية فيه رغم ما تنطوي عليه شخصيته من سلبيات. وهذا نوع من الإقرار بأن لا أحد يخلو من الصفات السلبية مهما احتوى على صفات إيجابية.

ولكن هناك دائماً حالة يكون عليها الشخص رافضاً الحديث بما عليه، إذا لا تشكل ثقافة اعتراف الذات بما عليها تقليداً في الثقافة العربية الشفوية والكتابية. وكل كتّاب السير الذاتية من العرب، لا يذكرون أي مثلب من مثالب حياتهم.

بل إن سيرة الذات المحكية في الجلسات لا تكتفي بستر ما يستحى من ذكره فقط، وإنما تنسج من خيالها وقائع تؤكد فضائلها وخيرها وشجاعتها ومواقفها العظيمة.

ولهذا يكون كشف المستور لبعض الذوات ذات الشهرة من قبل العارفين بها صادماً، ليس لأصحابها فحسب، وإنما للملتقي المخدوع غالباً بها، وبخاصة إذا جاء هذا الكشف من الأقربين لصاحب المستور الذي قضى.

وإذا كان الأصل في الثقافة العربية حول هذا الأمر: إذا ابتليتم في المعاصي فاستتروا، فإن كل خرق للقيم السائدة وبخاصة القيم الأخلاقية، شكل من أشكال ارتكاب المعصية، بحيث لم تعد المعصية مرتبطة فقط بمعناها اللاهوتي وإنما بمعناها الأخلاقي بعامة، فالكذب معصية، وكل اعتداء على الحق معصية، وكل تزييف للواقع معصية، وهكذا.

ولأن الوضع هو هكذا، فإن تصديق الرواية عن سلوك شخص ما لم يعد حاضراً في الحياة، ليس له ما يبرره، لا سيما ونحن لا نعرف بدقة الدافع لكشف ما يظن بأنه مستور. فقد يكون الحديث عن مثالب شخص ما عائش أو ميت مرده نوع من الكره والحسد. لكن المشكلة في الذات المستترة التي توقعنا بنوع من الخداع المقصود، الخداع الناتج عن الذات في حقيقتها، وكلامها عن نفسها بما يخالف باطنها، أو كلام الآخرين عنها على عكس ما هي في حقيقة الأمر.

غير إن هناك عادة سيئة جداً راحت تظهر في ثقافتنا العربية، ألا وهي كذب الشخص في ما هو عليه من درجة علمية، أمام آخرين لا يعرفونه، أو وضع مهنة زائفة لمدعو للتعليق على شاشة التلفاز وهو أبعد ما يكون عن هذه المهنة.

ففي بلدان كثيرة لا تجد كاتباً يزين اسمه بحرف الدال حتى ولو كان حاصلاً على شهادة الدكتوراه، لكننا نشهد في عالمنا العربي ظاهرة ليست حميدة، ألا وهي وضع هذا اللقب لمن لم يحصل عليه أصلاً.

وبهذه المناسبة، علي أن أشير إلى مسألة مهمة ألا وهي أن اللقب لا ينجب الكتابة، فعدد الأكاديميين الذين لا قبل لهم في الكتابة أكثر أضعافاً مضاعفة من الذين يكتبون، فضلاً عن ذلك فإن الإبداع الشعري والروائي والفكري والفلسفي ليس مرتبطاً بالدال.

لكن هذه قضية عابرة في هذا المقال، القضية الأرأس هي المتعلقة بالتناقض بين الذات الظاهرة وسلوكها الخفي، بين ما لها في العلن وما عليها في الخفاء. وهذه الظاهرة مردها نيل رضى الآخر عبر خداعه. وأسوأ أشكال هذا التناقض بين الخفي والعلني هو الكذب في العواطف تجاه الآخر، وهذا ما أشار إليه المتنبي بقوله:

ولما صار ود الناس خِباً

جزيت على ابتسام بابتسام

وصرت أشك فيمن أصطفيه

لعلمي أنه بعض الأنام.

وهذه الحال نمط من الخداع المؤلم.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني