لا يمكن اختزال «نجيب المانع» في عبارة «أديب وناقد ومترجم وكاتب صحافي». فهذا الزبيري المنشأ، البصري والبغدادي الهوى، السعودي الأصل، أكثر من ذلك بكثير ويستحق أن يوصف بالشخصية الموسوعية التي لن تتكرر، كونه صاحب سيرة عبقة ومسيرة طويلة من الإبداع والتنقيب في الثقافات العالمية، وشغف بكل ما هو جميل ومثري للفكر والوجدان.
ولحسن الحظ فإن للمانع كتاباً صدر بعد رحيله بعنوان «ذكريات عمر أكلته الحروف» دوّن فيه سيرته الذاتية بطريقة مشوقة ودون ثرثرة أو تفخيم للذات، مسجلاً كل ما هو لافت ومشوق في حياته عبر خط مستقيم من الولادة والطفولة إلى الشباب والشيخوخة مع بعض القفزات الرشيقة، وراسماً صوراً جميلة ووقفات شاعرية لجوانب من مسيرته الفكرية وانشغالاته وآرائه في الشعر والأدب والموسيقى، وكاسراً حواجز الخوف والسكوت والحساسيات التي تعتري البعض عند نشر مذكراته.
ولحسن الحظ أيضاً أن الكاتب محمد عبدالله السيف أصدر كتاباً بعنوان «نجيب المانع، حياته وآثاره»، حاول من خلاله سد النقص، ومنحنا صورة بانورامية عن الرجل. من هذين الكتابين وعشرات المقالات الصحافية التي تناولت المانع، نقدم هذه المادة المفصلة عنه.
ولد نجيب عبدالرحمن محمد المانع سنة 1926 ببلدة الزبير العراقية ابناً لأسرة تركت موطنها الأصلي ببلدة «روضة سدير» النجدية وانتقلت للعيش في الزبير إلى جانب من سبقوهم إلى هناك من أهل نجد ممن نزحوا لأسباب معيشية واقتصادية. فمع بدايات النصف الثاني من القرن 19 هاجر جده محمد المانع إلى الزبير التي أنجب فيها ولديه عبدالعزيز وعبدالرحمن. فأما عبدالعزيز فقد عمل في تجارة الخيول وأنجب 3 أولاد هم محمد وعدنان وعبدالحميد، وأما عبدالرحمن فقد عمل موظفاً في جمارك البصرة وتزوج من فتاة كردية كان والدها مراد آغا من جباة الدولة العثمانية، فأنجبت له نجيب، وهشام (درس الطب في ألمانيا واستقر بها حتى وفاته)، علاوة ابنتين هما فاطمة وسميرة.
حكى المانع عن طفولته ودراسته في الزبير فأخبرنا أنه رأى في طفولته بالزبير عالمين: عالم يلتحق فيه الأطفال بمدرسة النجاة الأهلية الابتدائية، فيدرسون العلوم الشرعية ويحفظون القرآن ويفهمون أدق قضايا النحو وأوزان الشعر ويمارسون المحاسبة ومسك الدفاتر، وعالم موازٍ يذهب فيه الأطفال إلى مدرسة البصرة الحكومية الابتدائية فيدرسون مقررات وزارة المعارف التي وصفها بـ «دروس تلمس الماء دون العوم فيه». ولأن المانع كان من طلبة مدرسة النجاة، التي وصفها بأنها كانت ابتدائية بالاسم فقط فيما مستواها يقترب من المستوى الثانوي، فقد نمت عنده مبكراً ملكات لغوية وأدبية قوية، وأطلع على التراث العربي، قبل أن يتوغل عميقاً في الثقافتين الإنجليزية والفرنسية.
غادر المانع الزبير إلى البصرة لإكمال دراسته في «ثانوية العشار»، لعدم وجود ثانوية بالزبير آنذاك، وفيها تميز عن بقية أقرانه بتفوقه في دروس الأدب لدرجة أنه كان يحرج معلمه «محمد الصانع» بأسئلته، طبقاً لزميله المؤرخ الراحل «توما الشماني». ومذاك لم يعد إلى الزبير.. ذلك أنه بعد تخرجه من ثانوية العشار، اتجه إلى بغداد لمواصلة دراسته الجامعية. وفي بغداد مال فكرياً وعاطفياً إلى سكانها القرويين البسطاء...
ما يدعو إلى الاستغراب هنا أن المانع هام إبان مرحلته الثانوية بقراءة أمهات الكتب في الأدب العربي، كما شغف مبكراً بالموسيقى الكلاسيكية والسيمفونيات الغربية.. وهكذا تعرف في تلك الفترة المبكرة من حياته على مؤلفات شكسبير، وموسيقى شوبان، وبيتهوفن، وموزارت. بل حاول أيضاً ترويجها في صفوف أقرانه بدليل ما قالته شقيقته الأديبة سميرة المانع من أنه كان «يريد من أهله، أن يستمعوا معه إلى الموسيقى الكلاسيكية، وأن يشاركوه حبه وهواياته الجديدة».
تخرج من جامعة بغداد عام 1948، لكن انتماءه وافتخاره كان دوماً إلى ما يسميه «جامعة نفسي» كناية عن أنه علم نفسه بنفسه..
عاد إلى البصرة مكللاً بشهادة الحقوق، لكنه أخفق في ممارسة المحاماة، على الرغم من علاقة ربطته بعبد اللطيف الشواف الذي كان قاضياً للصلح بالبصرة وصديقاً لعمه عبدالعزيز محمد المانع. وبعبارة أخرى لم يكن لعلاقته بالشواف تأثير على مشواره المهني بقدر ما كان لها تأثير آخر تمثل في تعمقه في الثقافة الشعرية، بسبب هوس الشواف بالشعر العربي، بدليل قول المانع إنه وبعد معرفته بالشواف «أصبح الشعر العربي لديه مأهولاً بعمق جديد لم يكن يعرفه سابقاً». والحقيقة أن المانع لم ينس فضل الشواف الأدبي عليه، فوصفه في كتاباته بالشخص الرائع، وأثنى على كرمه وأخلاقه ومروءته التي تجلت في تدخله لدى الزعيم عبدالكريم قاسم لإرسال زميله بدر شاكر السياب إلى إنجلترا للعلاج على نفقة الدولة.
من بعد مقاعد الثانوية والجامعة التي جمعت المانع والسياب، جمعت بينهما الوظيفة مجدداً. ففي أعقاب نيلهما الشهادة الجامعية عملا معاً في شركة نفط البصرة في وظائف كتابية دنيا مملة داخل المخازن.
في الخمسينات برز المانع في مجال النقد السينمائي، حيث تحول إلى متابع نهم لأفلام السينما الإنجليزية والإيطالية والفرنسية، الأمر الذي مكنه من تقديم قراءات نقدية للأفلام من خلال مقالات ودراسات كان ينشرها في جرائد ومجلات عراقية ومصرية ولبنانية أدبية وفنية.
اهتماماته بالأدب العربي ورواده آنذاك قادته إلى أعمال العقاد وطه حسين، فانبرى يتفحصها بعين ناقدة ليجد فيها من وجهة نظره عيوباً وثغرات، خصوصاً مع إطلاعه الواسع على كتابات كبار الأدباء الإنجليز والفرنسيين. فقد أخذ على طه حسين مثلاً تجاهله للأدب الأنغلوسكسوني وتركيزه على أدباء فرنسا المعروفين بالوضوح مثل ديكارت وموليير وفولتير دون أدبائها المشهورين بلغة الغموض مثل رامبو وبروست. أما العقاد فقد أخذ عليه تعاليه وثقته الزائدة بنفسه وعدم أخذه من التيار الأنغلوسكسوني سوى كتابات نثرية من القرن 19. وبعيداً عن العقاد وطه حسين، نجد للمانع آراء وقراءات في شعر معروف الرصافي، وأدب تولستوي وديستوفسكي، وعقدة المتنبي المتمثلة، طبقاً له، في «كبرياء الوجود مع كبرياء الإنجاز»، رافضاً منح مفاتيح المدينة إلا لإثنين: المتنبي وديستوفسكي.
وبالعودة إلى سيرته الوظيفية، نجد أنه عين مديراً لشركة نفط خانقين المحدودة، بسبب قدراته ومعارفه اللغوية والقانونية. وظل كذلك حتى الإطاحة بالملكية سنة 1958...
في شتاء 1961 تم تعيينه بوزارة الخارجية كموظف في الدائرة القنصلية بتوصية من هاشم جواد، أول وزير للخارجية في العهد الجمهوري، لكنه فصل في صيف العام نفسه أثناء وجود هاشم جواد في نيويورك.
بعد ذلك، عينه مصطفى رجب مدير «الشركة العربية لإعادة التأمين» موظفاً عنده قبل أن يبتعثه في منتصف الستينات إلى مركز الشركة في بيروت. وفي بيروت، التي عاش بها مذاك وحتى أوائل السبعينات مع عائلته بشقة واسعة في منطقة الحمراء، مستمتعاً بأجوائها الثقافية والفنية، راح يكثر من اقتناء الكتب والأسطوانات، وإقامة الولائم تكريماً لأدباء لبنان أو احتفاءً بضيوفه العراقيين حتى تراكمت عليه الديون، ما عجل باستدعائه إلى بغداد، حيث قدمه صديقه وزير الخارجية آنذاك الأديب شاذل طاقة حينذاك إلى نائب الرئيس كمترجم، فعينه الأخير مديراً عاماً لهيئة الترجمة بوزارة الثقافة، وظل ممسكاً بهذا المنصب حتى عام 1979.
ظلت الديون تلاحقه، وبعد إعادة جدولتها، اضطر للهجرة مع ولده البكر «لبيد» إلى شرق السعودية سنة 1984، حيث نجح في استعادة جنسية أجداده السعوديين. ومن شرق السعودية إلى جدة فإلى لندن للعلاج من جلطة أصابته باقتراح من شقيقته سميرة وزوجها صلاح نيازي المقيمين هناك منذ 1965.
شكل انتقاله إلى لندن منعطفاً مهماً في حياته. إذ أنس بوجود شريحة كبيرة من مثقفي العربية المهاجرين بها ولاسيما من العراق، فقرر الاستقرار هناك. وفي 1987 انضم إلى صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية بدعوة من رئيس تحريرها عثمان العمير.. واستمر كذلك إلى أن حانت منيته بتاريخ 2 نوفمبر 1991، جراء نوبة قلبية مفاجئة وهو جالس على كرسيه الهزاز.