أسست وسائل التواصل الاجتماعي نوعاً من الكتابة عن التجربة الفردية، بخاصة التجربة المرتبطة بالحياة اليومية: لقاء مع صديق، غداء جماعي، أفراح عرس، حضور مناسبة، مرض ما، عمل جراحي، فقدان عزيز، شجار مع صديق، زيارة، سفر ما، عيد ميلاد، عيد زواج، مولود وهكذا.
وتخلق هذه الكتابة نوعاً من المشاركة، والترحيب، وكلمات المجاملة، فضلاً عن تعليقات بعضها إيجابية وبعضها سلبية.
فالصداقات الافتراضية التي تولدت بفضل وسائل التواصل هذه، زادت من حجم العلاقات العابرة، كما كانت المجلات في زمن ما تفرد صفحة للتعارف بين الناس، وتضع صور الراغبين بالتعارف وعناوينهم، تبدأ المراسلات، وقد تأتي فرص لتحول الصداقة الافتراضية هذه إلى صداقة واقعية.
ولعمري بأن التأفف من بعض الكتاب من ظاهرة الكتابة عن الحياة اليومية لن تجدي نفعاً، لأن الكتابة عن هذه التجربة الفردية ليست سوى صورة من صور الوجود البسيط بالمعنى الفلسفي، وجود القيل والقال والنميمة وأخبار الفرد والآخرين، والشجار عن بعد، وأخبار الفرح والحزن، ورغبة الحضور السطحية.
بل إن عدداً من الكتاب أصابتهم العدوى من كتب الإخبار عن الحياة اليومية، وليس في ذلك ما يضير، بل إن الكتابة المرتبطة بما سبق تساعد الباحث في رصد أشكال الوعي وخطاب الذهنيات والقيم السائدة، ومستوى المعارف.
وفي كل الأحوال هذه الكتابات لا تنتمي إلى الكتابة بالمعنى المتواضع عليه لدى كتاب المقالة والأدب والفكر والفلسفة والفن والتاريخ والعلم. هل يعني هذا أن نذم الكتابة عن التجربة الشخصية؟ الجواب لا. لكن كل كتابة عن التجربة الشخصية لا تنطوي على معنى كلي وليس لها أثر في العقل والوجدان، وهي في أحسن أحوالها، جمل خبرية عن العالم الضيق للشخص ولا تنتمي للكتابة.
فالكتابة عن التجربة الشخصية ذات العلاقة بالكتابة بالمعني الماهوي للكلمة تكون كتابة شخص حاضر وفاعل في حقل مرتبط بحياة الناس، وعندها تكون الكتابة عن الشأن العام بوصفها تجربة الكاتب، هذا النمط من الكتابة يقدم معرفة بظاهرة، فالسير الذاتية للفاعلين السياسيين، إنما يكتبون تاريخ السياسة عبر كتابة تاريخ تجربتهم وفاعليتهم، تاريخ بلدانهم في جانب مهم من جوانب نشاط الدولة سياسياً، وقس على ذلك أصحاب التجارب الطويلة في الأدب والفكر، وقس على ذلك.
كما أن كتابة شخص على معرفة بواقعة كلية أسست لحالة جديدة، دون أن يكون فاعلاً فيها فتكون الكتابة عن الواقعة في صورة تجربة، كتابة تضيء الواقعة عبر وعيها في التجربة الشخصية.
الكتابة التي أنا بصددها هي الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي. فالفاعلون الذين أشرت إليهم بوصفهم ينتمون إلى التجربة الكلية وهم يكتبون على «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» فإنما يقدمون تجربتهم ارتباطاً بوقائع ذات أثر عام.
بل يمكن القول: لقد وفرت وسائل التواصل للفاعلين الذين ليس مهنتهم الكتابة حقلاً للحضور وإعلام الآخرين بما لا يعرفون وربما يصبحون في مستقبل الأيام روائيين، فيحولون تجربتهم إلى روايات.
فضلاً عن ذلك، فإن المبدعين وهم يكتبون، كل ما يكتبون هو تجربة شخصية، لأن الإبداع ليس سوى تجربة الشخص.
وإذا كانت لكل كتابة جمهورها فلا شك فإن وسائل التواصل هذه ستخلق مع الأيام تصنيفاً لجمهور القراء المرتبط بالتجربة الشخصية الفاعلة التي أشرت لها.
فكل تجربة وليدة في الكتابة أو سواها تأخذ وقتاً لتصل إلى ملامحها العامة ولتخلق جمهورها، فهي أقرب إلى الموضة التي سرعان ما تنتشر على نحو واسع ثم تنال شيئاً فشيئاً صورتها النهائية وحدود جمهورها.
وإذا كان عمر موضة الأزياء محدوداً فإن موضة الكتابة قد تأخذ شكل الطقوس.
الطقوس التي قد يحولها النقد إلى أصناف كتابة، ويضعون لها القواعد، ويتحول النقاد إلى حراس لهذه القواعد.
ونسيت أن أقول: إن المبدعين هم الذين يخلقون النقاد، أما كيف؟ فهذا سيكون موضع مقال خاص.