كتب تزفيتان تودوروف في كتابه «الأدب في خطر» يقول: «حاولت أن أكتب نظمت قصائد رديئة، ومسرحية من ثلاثة فصول موضوعها حياة الأقزام والعمالقة، بل شرعت في كتابة رواية، لكني لم أتخط الصفحة الأولى. أحسست سريعاً أن تلك ليست سبيلي، ودائماً غير متيقن من الآتي، اخترت مع ذلك دون تردد في نهاية الثانوية مسلكي الجامعي، سأدرس الأدب»، لقد صار تودوروف واحداً من أهم نقاد الأدب والفكر. هل هذا يعني أن الناقد في الأصل شخص خانته موهبة الإبداع؟

لا شك أنه لولا وجود المبدع لما وجد الناقد، لولا وجود النص لما وجدت القراءة، ولولا وجود الفيلسوف لما وجدت فلسفة النقد. ومع هذا فإن الناقد الحقيقي قد دفع بعملية الكتابة عبر نقده إلى الأمام.

حين كتب أمرؤ القيس معلقته لم يكن يعرف أن قصيدته من البحر الطويل، وكذلك عنترة لم يكن يدري أن وزن قصيدته بحر الكامل، وقس على ذلك بقية شعراء المعلقات، وهكذا حتى جاء الفراهيدي 718 - 789 ونظم أوزان الشعر العربي ببحور من الشعر وأطلق على كل بحر من البحور اسماً، فالشعر هو الذي خلق ناقد الشعر، وهو الذي حوّل الناقد إلى حارس على أوزان الشعر وقوافيه.

وقس على ذلك ناقد الرواية الذي صنعته الرواية، وراح يبحث عن عناصرها وسردها وشخوصها من البطل إلى الآخرين. وقس على ذلك نقاد الأفكار الذين ولدوا من نصوص الفلاسفة المبدعين، ومع الأيام راح النقد ينظم مناهجه النقدية متكئاً على مباحث الفلسفة وعلم النفس والعلوم اللغوية.

ومع تطور صنوف الإبداع ظهر الناقد المعلم، الذي صار يطرح ما يجب أن يكون ونقد ما هو كائن، والناقد المعلم هو فيلسوف الأدب والأفكار، إذ لم يعد مجرد قارئ يؤول النص، ومن أهم الأمثلة على الناقد المعلم: الناقد العربي الأشهر في عصره قدامة بن جعفر بن قدامة 874 - 948، والناقد الروسي في القرن التاسع عشر فيساريون جريجوريفيتش بِلينسكي (11 يونيو 1811 - 7 يونيو 1848) والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد. هؤلاء النقاد العباقرة ومن شابههم أسسوا لفلسفة النقد، ثم تطور مفهوم النقد وصارت القراءة عند النقاد كتابة جديدة للنص، وكشفاً عما وراءه، وصار التأويل للنصوص لا حدود له، لكن المبدع بوصفه مجترحاً لأساليب جديدة في الكتابة لا يكترث كثيراً بتخطيطات النقاد، الذين ولدوا من أرحام المبدعين، فقد حطم الشعر العربي الحديث قواعد الوزن والقوافي وأسس لوحدة القصيدة وموسيقاها الداخلية، ولحق كثير من النقاد هذه الحركة المبدعة، عارضها نقاد يميلون إلى النزعة التقليدية.

ومع تطور وسائل الاتصال واتساع حرية الكتابة لكل من يعرف الكتابة، نشأت ظاهرة النقد درباً للحضور الزائف، ورحنا نرى فجأة نقاداً ليسوا أهلاً للنقد المنهجي، ولا دراية لهم بعملية النقد وتاريخه، رحنا نرى ناقداً دون أن يؤسس خطابه النقدي على معرفة بموضوع النقد على خطابه. وهذا ضرب من الانتهازية طمعاً بالحضور، لا سيما وهو يعلم استهواء القراء للسجال والمناكفة. ولعمري أن النقد بوصفه درباً للشهرة الزائفة لا ينجب إلا الحضور الزائف قصير العمر.

فضلاً عن ذلك، فإن موقف الناقد الشخصي يحرمه من أخلاق النقد، ولهذا ميّزت العربية بين النقد والانتقاد، حيث النقد معرفة وكشف وتقويم موضوعي، والانتقاد بحث عما هو سلبي وشجار مع مؤلف لا يروق للناقد. والطامة الكبرى في طقوس النقد الزائفة انتقال الناقد نفسه من مادح للمبدع إلى ذام له لأسباب لا علاقة لها بالنص.

أعود للسؤال: هل الناقد إمكانية مبدع لم تتحقق بسبب فقدان موهبة الإبداع؟

لا شك أن الناقد يعرف كل قواعد اللعب التي جردها من ألعاب المبدعين، لكنه لا يستطيع أن يلعب، رغم إنه يستطيع أن يحكم على ألعاب المبدعين، وعلينا أن نضيف أن المبدع قد يمارس النقد لما سبقه من آباء أو عاصره من مبدعين، وذلك كي يؤسس عالمه الخاص، لكن المبدع ليس ناقداً.