تتميّز المنطقة العربية عن غيرها من بقاع العالم بميزاتٍ ثلاث مجتمعة معاً:

فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية، فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.

وثانياً، تحتلّ أرض العرب موقعاً جغرافياً مهمّاً جعلها في العصور كلّها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسّط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي المهم خرجت أو مرَّت كلّ حضارات العالم سواء القديم منه أو الحديث.

وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيراتٍ طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنّها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم. فهكذا هو الحال منذ أيام الإمبراطورية الرومانية التي كانت خزائن قمحها تعتمد على الشرق العربي وصولاً إلى عصر «الدولار» القائم على ثروات مشرق الأمة ومغربها.

وهذه الميزات الإيجابية جعلت المنطقة العربية دائماً محطّ أنظار كلّ القوى الكبرى الطامعة في السيطرة والتسلّط..

فتحْتَ شعار «تحرير أرض مهد السيد المسيح» برّر الأفرنجة (الصليبيّون) غزواتهم للمنطقة العربية، بينما الهدف الحقيقيّ منها كان السيطرة على المنطقة العربية وخيراتها الاقتصادية، في ظلّ الصراعات والأزمات التي كانت تعصف بأوروبا..

وتحت شعار استمراريّة «الخلافة الإسلامية» برَّر العثمانيون سيطرتهم على معظم البلاد العربية..

كذلك الأمر بالنسبة للموقع الجغرافي الرابط بين القارات، منذ الإسكندر الكبير الذي احتلّ مصر وبنى الإسكندرية ليصل إلى شرق آسيا، وحتّى مرحلة حملة نابليون، ثمّ الاحتلال البريطاني وبناء قناة السويس لتسهيل السيطرة على المحيط الهندي.

أيضاً، تتميّز المنطقة العربية في تاريخها المعاصر عن باقي دول العالم الثالث، أنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة وفق ترتيباتٍ دولية وضعتها القوى الأوروبية الكبرى في مطلع القرن العشرين.

ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، ولا يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين قوّة فاعلة واحدة لمواجهة التحدّيات الخارجية أو للقيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجزٍ أمني ذاتي في مواجهة ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة، ممّا برّر الاستعانة بقوى أمنية خارجية في أكثر من مكان ومحطّة زمنية..

حصل هذا الأمر أيضاً مع أوروبا الغربية التي اضطرّت للاستعانة بالولايات المتحدة الأمريكية لمعالجة تداعيات الحرب اليوغسلافية في عقد التسعينات بعدما عجزت دولها عن وقف هذه الحروب على أرضها، إذ رغم القوّة العسكرية الخاصّة للبلدان الأوروبية ورغم ما بينها من صيغ للتعاون الأوروبي إلا أنّها افتقدت الأداة العسكرية المشتركة والإرادة السياسية الواحدة، فاضطرّت إلى اللجوء لواشنطن لطلب المساعدة.

لكنّ الدول الأوروبية نجحت أيضاً في تطوير صيغ التعاون فيما بينها على مدار سبعة عقود ماضية، رغم ما هي عليه من تباين عرقي وثقافي واجتماعي ومن تاريخٍ مليء بالحروب والصراعات الدموية، بينما عجزت جامعة الدولة العربية عن فعل ذلك رغم العمر الزمني المشترك بين التجربتين: الأوروبية المشتركة وجامعة الدول العربية! ألا يؤكّد ذلك أنّ المشكلة هي في انعدام القرار السياسي أو في سوء استخدام هذا القرار وليس في توفّر الظروف المناسبة أو الإمكانات المتاحة؟! فما يربط بين الدول العربية هو أكبر بكثير من عوامل الربط بين دول الاتحاد الأوروبي، لكنْ هناك على الطرف العربي غياب للقرار السياسي بالتعاون والتكامل، ثمّ أنّه إذا توفّر هذا القرار فيكون من خلال سوء أسلوب في الإدارة والتعامل والخطط التنفيذية، كما حصل في تجارب وحدوية عربية عديدة أدّت نتائجها إلى مزيدٍ من الشرخ والانقسام بدلاً من الاتّحاد والتعاون.

أيضاً، من دروس التجربة الاتّحادية الأوروبية، أنَّ هذه الدول تحكمها مؤسّسات سياسية ديمقراطية وتُخضع قرار الاتّحاد فيما بينها إلى الإرادة الشعبية في كلّ بلد فلا تفرض خيار الوحدة بالقوة، ولا يضمّ الكبير القوي في أوروبا... الصغير الضعيف فيها، وكان ذلك درساً كبيراً من دروس الحربين العالميتين الأولى والثانية ومن تجارب ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية، حيث إنّه تأكّد لشعوب أوروبا أنَّ خيار الديمقراطية، وأسلوب الإقناع الحر بأهمّية الاتّحاد، هما الطريق لبناء مستقبلٍ أفضل لكلّ بلدٍ أوروبي وللتعاون الأوروبي المشترَك.. فهل يدرك العرب أيضاً هذه الدروس من محصلة تاريخهم وتاريخ تجارب الشعوب الأخرى؟!

 

* مدير مركز الحوار العربي في واشنطن