عيّد المسلمون في كل مكان على أصوات أهازيج الأطفال وأناشيدهم، وأصوات الألعاب النارية، وعيّد السودانيون على أصوات الانفجارات والطائرات الحربية، ودوي القصف المتبادل بين المتصارعين على السلطة المتقاتلين على برق ذهبها.

يقول الكاتب والفيلسوف والروائي «ألبير كاموا» في روايته الشهيرة «الطاعون»:

«حين تنشب حرب ما يقول الناس إنها لن تدوم طويلاً، فهذا أمر مفرط في السخف، ولا ريب في أن حرباً ما هي أمر مفرط في السخف، لكن ذلك لا يمنعها أن تدوم. إن السخف يلح دائماً، وهذا شيء يسير ملاحظته إذا لم يفكر الإنسان دائماً في نفسه».

ربما يبدو هذا كلاماً فلسفياً، حشره كاتب وفيلسوف عبثي فرنسي، وُلد وعاش جزءاً من حياته في الجزائر، داخل رواية تتحدث عن انتشار مرض الطاعون في مدينة «وهران» الجزائرية، إبان الحرب العالمية الثانية، طارحاً عدداً من الأسئلة المتعلقة بطبيعة البشر وموقفهم من القدر، لكنه يمثل حقيقة واقعة، عايشها ملايين البشر في أزمان الأوبئة والحروب، كأنما الوباء حرب شرسة، يواجهها الناس بكل ما يملكون من أسلحة، وكأنما الحرب وباء يعانون منه أياً كانت مبررات من يشعلها، ويمدها بأسباب اتقادها.

عندما اندلعت الحرب الأوكرانية- الروسية في شهر فبراير من العام الماضي لم يتوقع أكثر الخبراء والمحللين أن تستمر أكثر من أسابيع، بل ظنوا أنها ربما استمرت أياماً تعد على أصابع اليد الواحدة، نظراً لفارق القوة بين الطرفين المتصارعين، فروسيا قوة نووية عظمى تمثل، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، أحد قطبي القوة في العالم، في حين لا تشكل أوكرانيا، بالمقارنة معها، أكثر من أرنب صغير يقف إلى جانب دب كبير، لكن الأيام مضت يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر، حتى أكملت عاماً وتجاوزته، والحرب لا تزال مستعرة بين الأرنب الصغير والدب الكبير، لاغية كل القواعد والنظريات، غير معترفة بالمنطق وقوانينه، مؤكدة أن الحرب هي أمر مفرط في السخف، لكن ذلك لا يمنع أن تدوم أكثر مما يمكن أن يتوقع أكثر السخفاء تشاؤماً.

وعلى الحرب الروسية- الأوكرانية يمكن أن نقيس الكثير من الحروب، التي نشبت في مناطق كثيرة من العالم، ومنطقتنا العربية ليست استثناء من هذه الحروب، ما كان عبثياً منها أو غير عبثي، إذا نظرنا إليها من منظور واقعي، يلغي الكثير من المبررات التي يسوقها، الذين يشعلون هذه الحروب ويمدونها بأسباب استمرارها وديمومتها، مستثنين من هذه الحروب ما كان منها دفاعاً عن وطن أو صداً لعدوان أو استرجاعاً لحقوق مغتصبة، فهذا النوع من الحروب مقدس، لا يمكن أن يختلف عليه اثنان، بل هو واجب على المواطنين الشرفاء المخلصين تجاه أوطانهم.

ما قصدناه بالحروب العبثية هي تلك الحروب، التي تنشأ نتيجة الصراع على السلطة أو النفوذ أو المصالح الفردية، لا المصالح الوطنية، وما يحدث في السودان منذ منتصف شهر أبريل الجاري لا يمكن أن يُصنف إلا في خانة هذه الحروب العبثية، أياً كان الطرف الذي أشعل الحرب، وأياً كانت الأسباب التي يسوقها، لتبرير انسياقه إلى هذا الصراع وإشعاله نيران الحرب بين أبناء الشعب الواحد، بعد أن قام الشعب السوداني بواحدة من أنبل الثورات وأكثرها نجاحاً، وأزاح حكماً دكتاتورياً لم يتصور أحد في يوم من الأيام أن تقضي عليه ثورة شعبية بهذا الشكل، لكن ما حدث بعد ذلك من تضارب مصالح الذين ركبوا موجة الثورة كان هو ما أدى إلى الوصول إلى هذه الحال باتفاق معظم الأقوال.

هل كان بالإمكان أبدع مما كان؟

نعم، كان بالإمكان أبدع مما كان لو أن النوايا خلصت، ولو أن النفوس صفت وتجردت من أطماعها، ولو أن الأمور سارت كما كان مخططاً لها، ولكن متى كانت الأمور تمضي دائماً كما هو مخطط لها؟

هل كان ضرورياً أن يحدث كل هذا الخراب في المدن السودانية، وأن تُدمر البنية التحتية والمستشفيات والمطارات ومحطات الكهرباء والمياه، وأن يتم احتجاز الطلبة في جامعاتهم ومدارسهم، وأن يُحاصر المرضى في بيوتهم، وأن يقتتل الفرقاء في شهر رمضان المبارك، كي يعيد الشعب السوداني حساباته، ويعرف من استفاد من ثورته ومن خسر، ومن يحاول أن يحافظ على غنائمه منها وينجو بها؟

يستحق السودانيون عيداً أفضل من العيد، الذي مر بهم، يستحقون دعوات أكثر من الدعوات، التي دعوناها لهم، يستحق السودانيون قيادات لا تنتهك حرمة شهر رمضان الفضيل، وتفسد أعيادهم.