بعد ثلاثة أشهر من انضمامه لإحدى المدارس، وصلت رسالة يحملها ذات الطفل لتسليمها لوالديه، وفيها إخطار بفصله من المدرسة لكثرة أسئلته بما يوحي بصعوبة استيعابه، وكان نصها: «ابنك مريض عقلياً ولا يمكننا السماح له بالذهاب إلى المدرسة بعد الآن»، فتداركت الأم الوضع وابنها ينتظر أن تخبره بفحواها وهي تتظاهر بأن الرسالة تقول: «ابنك عبقري، هذه المدرسة متواضعة جداً بالنسبة له، مِن فضلك علّمه في المنزل» !

بعد أن تعلم من والدته القراءة لم يكن يمر عليه كتاب إلا ويقرؤه، وأصبح مهووساً بالتجارب العلمية لدرجة أنّ في إحداها أحرق مخزن الحبوب في متجر والده فعاقبه أمام الجميع وهو في العاشرة من عمره، وفي سن الثانية عشرة أصدر صحيفة من داخل محطة قطار أسماها Grand Trunk Herald وبقي وفياً لطموحاته وتجاربه العلمية حتى واتته الفرصة عندما تبرع بمساعدة مخترع آلة تسجيل الأسعار ببورصة الذهب إثر تعطلها، الأمر الذي أبهر المخترع وعيّنه موظفاً براتب 300 دولار شهرياً!

عندما نجح باختراع المصباح الكهربائي في 21 أكتوبر عام 1879 حتى سُمّي بـ «الرجل الذي أضاء العالم»، أتاه بعض المثبطين ليقول له: لقد فشلت أكثر من 900 مرة في صنع المصباح، فلماذا واصلت؟ كان ردّه مختلفاً وهو يقول بهدوء: «أنا لم أفشل، ولكن تعلمت أكثر من 900 طريقة لا تُشْعِل المصباح!»، ذاك هو توماس أديسون الذي بلغت براءات اختراعه نحو 1093 ليكون رابع أكثر المخترعين إنتاجاً في التاريخ!

سردتُ هذه المقدمة الطويلة لتكون مرجعية نعود إليها عندما تعلو حولنا أصوات المثبطين وتهكمات المفلسين علمياً وفكرياً، فقد وصلنا لزمنٍ ينتقص من المرء أخوه لا عدوه، وهي مرجعية لنعي أن النجاحات العظيمة لا تحدث «غالباً» من المرّات الأولى، بل لا بد من الصبر وإعادة التخطيط وتكرار المحاولات حتى يستطيع الإنسان من الوصول لهدفه المنشود، وأنّ الإنسان لا يفشل لمجرد التعثّر أو إخفاق تجربة، ولكنّ الفشل هو أن يتوقف ويعود أدراجه!

عندما أعلنت شركة ispace اليابانية عن فقدان الاتصال بمركبة الهبوط «هاكوتو آر ميشن» والتي كانت تحمل المستكشف الإماراتي «راشد»، فإن الأمر لم يكن كارثة وإن كان محزناً لا شك بعد تلك الجهود الجبارة التي بذلها شباب وشابات الإمارات لبناء ذاك المستكشف المتطوّر، فالمختصون كانوا على علم بأن النجاح لن يكون أمراً سهلاً، ففي أبريل 2019 تحطم مسبار «بيريشت» الإسرائيلي، وفي ذات العام تحطّم المسبار الهندي «فيكرام»، وحتى الساعة لم تنجح سوى ثلاث دول فقط في إنزال روبوتات على سطح القمر هي: الولايات المتحدة وروسيا والصين، فلا يحتاج الأمر لمناحةٍ كما حاول أن يتصنّعها البعض الذي يبدو أنّه في قرارة نفسه كان مبتهجاً وفقاً لما قرأناه هنا وهناك على وسائل التواصل!

ما أخرس أفواه المتباكين والساخرين والمشككين هو سرعة إعلان حكومة الإمارات عن البدء بمشروع «راشد2»، فقرار دخول صناعة الفضاء لم يكن «ضربة مزاج» أو محاولة كسب دعاية مؤقتة، بل هو إيمان بأن البلاد إن أرادت اللحاق بدول النخبة فعلاً فلا بد أن ترفع معايير تنافسيتها لأقصى حد ممكن، وأن تستثمر في أبنائها لتخطيط وإدارة وتطوير مشاريع فضاء متقدمة خاصة ونحن نرى السعي الكبير من وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» تحديداً لتنمية ما يُعرَف بالاقتصاد القمري، وقيامها بإسناد نقل معدات وتجهيزات لتجارب علمية إلى القمر لشركات خاصة.

نحن دولة تؤمن قيادتها بقدرات أبنائها وبناتها، وتضع لنفسها طموحاً عالياً للغاية ولن تتنازل عنه مهما كلّف الأمر، وما تأسيس قطاع متقدم للفضاء من الصفر إلا دليل بيّن على وضوح الرؤية ومنهجية العمل، وأنّه من أجل حصاد مثمر لا بد من وجود بذرة جيدة وجهد مضاعف وحماس لا ينطفئ بالعثرات التي لا يخلو منها طريق النجاح.

المستكشف «راشد» يحمل اسم الإمارات على سطح القمر الآن وإنْ فُقِد الاتصال به، وعن قريب سيلحقه مُكلّلاً بالنجاح إن شاء الله شقيقه «راشد2»، وستتلوها مشاريع رائدة أخرى لتضع اسم دولة عربية مسلمة مع صفوة النخبة التي تصنع مستقبل صناعة واقتصاد وعلوم الفضاء، ولا يهم مجيئنا متأخرين ما دمنا لم نرضَ بالبقاء دون سعي، فنحن نؤمن بأننا نمثل رقماً صعباً ونثق بعد الله بكفاءة شبابنا، ونحظى بدعم لامحدود من قيادة البلد، وهو ما يجعلنا ننظر للقادم بابتسامة ثقة عريضة، أمّا أصوات المثبطين والساخرين وضعاف النفوس فلا نملك لها إلا تلك الحكمة المغولية القائلة: «مَن لا يجعل مئة كلبٍ ينبح خلفه، ليس بذئب»!