يبدو الحديث عن هذا الهاتف العجيب الغريب الذكي الذي يأتمر لأصابع صاحبه بتحريكها على الشاشة والذي يحمله الكبير والصغير في شتى أرجاء الأرض وكأنه حديث تاريخي، مضت عليه عقود وعقود. ويبدو الإعلان عن محرك بحثي جديد اسمه «جوجل» وكأنه حدث تاريخي يدرسه الطلاب في المدارس.
وتبدو تطبيقات التعقب و«التعارف بين قادة السيارات والركاب» بهدف النقل والمشاهدة ومعرفة أسماء المتصلين والتواصل بين مقدمي الخدمات الصحية والتموينية والتعليمية والترفيهية وبين العملاء أو المواطنين وكأنها جزء لا يتجزأ من تاريخ البشرية.
حتى الروبوتات المصممة لتكتب وتشرح وتحلل مفاهيم وظواهر وحتى أحداث بالغة التعقيد بلغة سهلة وصحيحة وأسلوب بسيط ورزين مثل «تشات جي بي تي»، بدأ جانب من البشرية يتعامل معها باعتبارها تطوراً طبيعياً لمكون الذكاء الاصطناعي الذي هو جزء لا يتجزأ من حياة البشر على وجه الأرض اليوم.
لكن ما يبدو لنا طبيعياً أو شبه طبيعي اليوم، ليس بالضرورة كذلك. فالخط الفاصل بين الواقع والافتراض، أو بين الحياة بتفاصيلها البشرية المعتادة وبين الحياة بعد تحول الذكاء الاصطناعي فرضاً لا اختياراً، ومكوناً رئيساً لا ثانوياً لم يعد واضح المعالم، بل لم يعد في الإمكان تحديده والعمل على الإبقاء عليه.
قبل سنوات، ظهرت أصوات خافتة في خضم انشغالنا وانغماسنا وإعجابنا بهذا القادم الجديد من معامل مغلقة على علمائها، أو مقتصرة على مجالات عسكرية أو بحثية، حيث الآلة تقوم بمهام جرى العرف أن يقوم الإنسان وحده بها.
الأكبر سناً سيتذكرون كيف أن ظهور الآلة الحاسبة بشكلها الحديث نسبياً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أزعج البعض. هذه الآلة العجيبة تسللت إلى محلات البقالة، ثم إلى بعض قاعات الدرس، وهو ما أجج المخاوف من أثرها على تعطيل عمل الدماغ القادرة على إجراء العمليات الحسابية اليومية العادية.
وكذلك تشجيع التلاميذ على استسهال استخدامها بدلاً من تنمية قدراتهم الحسابية. اليوم يتحدث الأجداد عن هذه المخاوف فينظر الأحفاد إلى بعضهم البعض ولا يفهمون المقصود بالحديث من الأصل.
الأصل في الطبيعة هو الوسطية والاعتدال. والغاية من الابتكارات – أو هكذا يفترض- أن تخدم البشرية وتيسر الحياة.
يخبرنا تاريخ الابتكار والاختراع أن البعض يخترع لتلبية الاحتياجات الأساسية للإنسان. والبعض الآخر يخترع ليحقق رغبات إبداعية لديه. وهناك من يخترع لأسباب أو حتى تحت ضغوط اجتماعية أو اقتصادية لإيجاد حلول أو تذليل مصاعب تواجهها البشرية أو قطاع منها.
لكن اليوم، تقف البشرية في مفترق – وربما متفق- طرق أمام هذا الكيان الأسطوري والحقيقي في آن والمعروف باسم الذكاء الاصطناعي. وهذا الوقوف لا يعني – أو لا يجب أن يعني- اختياراً بين الاعتناق الكلي أو الإلغاء الشامل. لقد حقق الذكاء الاصطناعي قفزات لم تخطر على بال أو خاطر.
وهذه القفزات على ما يبدو تتحقق بسرعات لم يعتدها البشر أنفسهم، بمن في ذلك من يقفون وراء هذه القفزات الابتكارية. تسارعها وتلاحقها وتواترها باتت تخيف بعضنا.
بعضنا يتساءل بتوتر: هل تختفي وظيفتي بعد سنوات وربما أشهر بسبب الذكاء الاصطناعي؟ والبعض الآخر يتوجس من هذه التطورات المذهلة خوفاً على مستقبل أبنائه، وهم من استثمر في تعليميهم ما يملك من مال وجهد ليُفاجأ بأن ما درسوه يمكن للآلة أن تنجزه في لمح البصر؟
فريق آخر، ربما أكثر عمقاً، يفكر فيما يمكن أن تؤول إليه أحوال البشرية المنغمسة في شاشاتها المثبتة في يد أغلبها، أو ما يمكن أن تصبح عليه شكل العلاقات الأسرية والاجتماعية في ظل انتقال جانب معتبر منها من الفعل إلى الافتراض، أو ما قد ينتج عن تطور قدرات الآلة على قراءة بواطن العقل ومكنون القلب وهما من أدق خصوصيات الإنسان.
ولا يمكن بالطبع إغفال المخاطر التي تبقى مطروحة حيث الحروب السيبرانية والتي يمكنها أن تكون أكثر فداحة من الحقيقية.
حين قدمت «هوليود» أفلام خيال علمي قبل سنوات طويلة عن برامج ذكية تتطور وتسبق البشرية فتسيطر عليها وتحرك سكان الأرض كما يحلو لها بعيداً عما كان يحلو لمن ابتكرها، بدت الأفلام مفرطة في الخيال مغرقة في اللامنطق واللامعقول.
اليوم تبدو هذه الأفلام أقرب كثيراً إلى الاحتمال الحقيقي. ربما تحدث، وربما لا تحدث. لكن الأهم من ذلك هو ما يستشعره الجميع حالياً من وصول علاقة البشرية بالذكاء الاصطناعي (الذي هو من صناعة البشر أنفسهم) إلى مفترق طرق. هل نمضي قدماً دون تخطيط أو تدبير؟ وحتى لو أردنا أن نخطط وندبر، هل نملك هذه الرفاهية أمام ما حققه الذكاء الاصطناعي من إنجازات تقنية، وكذلك استلابية لقدراتنا على ترشيده وتقنينه؟
*كاتبة صحافية مصرية