قالت صحيفة «الغارديان» البريطانية إن 22 مليون بريطاني تابعوا حفل تتويج الملك تشارلز الثالث في السادس من هذا الشهر، وإن 29 مليوناً في المقابل تابعوا حفل وداع الملكة إليزابيث في سبتمبر من السنة الماضية.

ولم تقدم الصحيفة تفسيراً لهذا التفاوت بين المناسبتين، ولا لهذه الفجوة القائمة بين الرقمين. وحاولت صحيفة «ديلي إكسبريس» تقديم تفسير للتفاوت والفجوة معاً، فقالت إنهما راجعان إلى الطابع المعاصر للمجتمع.


وسوف تختلف الآراء في التفسير، وسوف تتباين وجهات النظر، ولكن الخوف أن يخرج علينا تفسير من بين التفسيرات ليقول إن البريطانيين، والحال كذلك، إنما يميلون إلى متابعة أنباء الموت والرحيل، أكثر مما تشدهم أخبار البهجة والحياة!


ولو قيل مثل هذا التفسير فسيكون ظالماً للإنسان عموماً، ثم للإنجليز خصوصاً وهم يقفون بين حالتين: حالة كانوا يتابعون فيها ملكة مغادرة في سبتمبر 2022، وحالة أخرى كانوا يتطلعون فيها إلى ملك مقبل في مايو 2023، وهو تفسير ظالم، لأنه يتجاهل ما بين الحالتين من فروق. ومن بين الفروق على سبيل المثال أن الملكة التي غادرت قبل شهور، كانت تغادر عن عُمر اقترب وقتها من القرن الكامل، وكانت تغادر عن سبعة عقود قضتها في القصر، منذ أن جرى تتويجها مثل ابنها في عام 1953 إلى أن رحلت في عام 2022، فعاشت ورأت ما لم يكن متاحاً لغيرها من الملوك والملكات، وهي بهذا المعنى صارت عند رحيلها «حالة» مكتملة الأركان، أكثر منها ملكة جلست على الكرسي وفوق رأسها التاج البريطاني.


صحيح أن الملكية في بريطانيا ملكية دستورية، وصحيح أن الملك في ظل نظام ملكي كهذا يملك ولا يحكم، ولكن العبرة في مثل حالة الملكة إليزابيث ليست بأن تحكم أو تملك، إنما بالسطوة التي تمثلها وتجسدها في مكانها، وبالنفوذ الذي كانت تمارسه في بلادها وغير بلادها، حتى ولو كان نفوذها معنوياً في غالبيته، ونفوذاً أدبياً في الجزء الأكبر منه.


والنفوذ في حالتها كان بالتراكم من لحظة التتويج في وقتها إلى ساعة الرحيل في حينها، ولم يكن نفوذاً بالسلطة الفعلية التي كانت تملكها في يدها، لأنها ملكت طول عمرها ولم تحكم، ولأنها أصبحت في ختام الرحلة أقرب إلى الأيقونة السياسية منها إلى أي شيء آخر.


وهذه مسألة لم تكن كلها في يدها، ولا هي صنعتها بنفسها، لكنها مسألة على علاقة بعُمر طويل كتب الله تعالى لها أن تعيشه.


وإلا.. فإن لنا أن نتخيل عدد متابعي مشهد رحيلها، لو أنها غادرت قبل الموعد الذي غادرت فيه بسنين طويلة، ولو أنها قضت في القصر عشر سنين فقط، أو عشرين، أو حتى ثلاثين.


لو حدث هذا مع ما نعرفه عن أن «لو» تفتح عمل الشيطان، لما كانت هناك مقارنة في الأصل بين المشهدين، وما كانت قد شكلت حالة لدى الناس في داخل بلادها وفي خارجها، لأن ملوكاً كثيرين يحكمون عشر سنين، أو عشرين، أو ثلاثين، ولا يتحول مشهد رحيلهم بالتالي إلى مشهد مماثل لمشهد رحيلها، ولا يحظى أي واحد من بينهم بعدد من المتابعين بالملايين، كما كانت الحال معها عندما استأذنت وغادرت.


وإذا كانت منظمة الصحة العالمية تصنف الذين يتجاوزون التسعين من العمر على أنهم من المعمّرين، فلقد عاشت إليزابيث ورحلت وهي معمّرة بامتياز، ولم تكن معمّرة في السن فقط، لكنها عمّرت على الكرسي، فأضاف ذلك لها ما لم تعرفه ملكة ولا ملك آخر إلا في النادر القليل.


* كاتب صحافي مصري