لا أعرف من هو الكاتب أو الشاعر الذي استخدم وصف «عمر الورود» أول مرة وهو يعبّر عن نضارة الشباب، فلا يستخدم مثل هذه الأوصاف إلا الكُتّاب والشعراء الحالمون، لكنني أعتقد أنه أحسن الاختيار، لأن «عمر الورود» قصير مثلما هو عمر الشباب، الذي لا نشعر بعبوره حتى نجد أنفسنا قد تجاوزنا مراحل كثيرة من الحياة غيره.

على أي حال ليس الوصف هو موضوع حديثنا، وإنما الموصوف، لكنني لم أجد مدخلاً للحديث عنه أفضل من هذا المدخل الذي يبدو رومانسياً، فليكن إذاً هو المدخل.

كل صباح نراهم منطلقين إلى مدارسهم وجامعاتهم، شباباً في نضارة الورود المتفتحة. لا أقصد جمال الشكل، فالنضارة غير الجمال، ذلك أن الشباب يضفي على الإنسان جمالاً من نوع آخر لا علاقة له بالشكل الخارجي، جمالاً داخلياً لم يعرف بعدُ تقلّبَ الحياة بين المسرات والأوجاع، وتلك الخيبات التي لو عرفتها الورود ما تفتحت وردة منها، ولا رأينا شيئاً من الجمال الذي نتغنى به كلما رأيناها أو جاء ذكرها.

ما الذي يمكن أن يفكر فيه شاب أو شابة في «عمر الورود» وهما ينطلقان نحو مدرستهما أو جامعتهما؟

لو عدنا إلى الماضي، وطرحنا هذا السؤال على أنفسنا، عندما كنا شباباً في «عمر الورود» مثلهم، هل كانت الإجابات ستتشابه أم تختلف؟

هل يفكر هؤلاء الشباب في الحاضر الذي يعيشونه؟

لن تجد شاباً أو شابة راضيين عن الحاضر الذي يعيشانه، لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل. هذا لا يعني بشكل من الأشكال أن الحاضر سيئ. هذا يعني أن الشباب لا ينشغلون كثيراً بالحاضر، حتى لو كان هذا الحاضر جميلاً ومشرقاً. هم ينشغلون غالباً بالمستقبل، يفكرون فيه ويتطلعون إليه.

كان هذا الحاضر عندما كنا في «عمر الورود» مثلهم، هو المستقبل، فهل اختلف مستقبلنا كثيراً عن الصورة التي كنا ننتظرها، أو التي كنا نتمناها، أو التي كنا نشكّلها لأنفسنا وقتها؟

تُرى، كم مرة علينا أن نقول «كُنّا» قبل أنْ نشعر أننا نتحدث عن زمن آخر، عن «عمر ورود» لم يعد «عمر ورود» كان ذات يوم جميلاً ومشرقاً، تماماً مثل عمر هؤلاء الذين نراهم كل يوم منطلقين إلى مدارسهم وجامعاتهم، ينظرون أمامهم، كأن الذي خلفهم ليس عمراً، كأن العمر هو الآتي فقط، كأن المستقبل هو العمر الحقيقي، كأن الماضي ليس إلا نقطة بحجم رأس دبوس في ذاكرة سوف تبلى يوماً، ويلفّها النسيان فلا تعود ذاكرةً حتى؟

هم لا ينظرون إلى الرصيف الذي يقفون عليه الآن، هم ينظرون إلى الرصيف الآخر من الطريق الذي يعبرونه. كنا نظن، عندما كنا في «عمر الورود» مثلهم، أن الرصيف الآخر من الطريق هو الرصيف الأخير، قبل أن نكتشف أن علينا عبور طرق كثيرة، والوقوف على أرصفة كثيرة، نعرف لها أوّلاً لكننا لا نعرف لها آخر. لم نتوقف في منتصف الطريق لنسأل أنفسنا: ولكن إلى أين؟ كأنّ تياراً قوياً كان يدفعنا إلى الأمام مسلّمين مسلوبي الإرادة.

لو كنا نعرف أن هذا التيار القوي يقرّبنا من الرصيف الأخير، حيث نهاية الرحلة، لتمهلنا قليلاً.. لحاولنا أن نهدّئ من سرعة القطار المنطلق كالسهم المارق في اتجاه واحد.. لقلنا لقائد القطار: رُحماكَ، ترفّقْ بنا، لا نريد أن نصل إلى الرصيف الأخير بهذه السرعة، لسنا في عجلة من أمرنا.

كل صباح نراهم منطلقين إلى مدارسهم وجامعاتهم، شباباً في عمر الورود، نتمنى لو تأخرت ولادتنا لنكون الآن في «أعمار الورود» مثلهم.

ألم نكن ذات يوم في أعمارهم؟!

ماذا كنا سنفعل، لو تأخرت ولادتنا قليلاً أو كثيراً، أكثر مما يفعلون الآن، وماذا فعلنا عندما كنا في «أعمار الورود» مثلهم؟

نرجعُ إلى الوراء كي نستعيد مشاهد مضى عليها عمرٌ مرّ كالبرق، نسأل أنفسنا: تُرى كيف كانت مشاعرنا وقتها؟ هل كنا نمضي منطلقين إلى الأمام لا ننظر خلفنا مثلهم؟ هل كان الحاضر لا يرضي طموحنا؟ هل كنا نرسم لأنفسنا مستقبلاً وردياً بلون «أعمار الورود» تلك التي كنا فيها؟

سوف يأتي زمن يفكر فيه هؤلاء الشباب، الذين هم في نضارة الورود اليوم، مثلما نفكر نحن الآن، فهل تراهم يعودون إلى ما كتبنا ليعرفوا أن دورة الحياة هي ما نعنيه؟

ربما يحدث هذا يوماً، فلا داعي لأن نفسد على هؤلاء، الشباب صفو اللحظات الجميلة المشرقة التي يعيشونها كل صباح، وهم ينطلقون إلى مدارسهم وجامعاتهم.

سيردد البعض: ألا ليت «عمر الورود» يعود يوماً.

سنرد عليهم: وهل، إذا عاد «عمر الورود» ذاك، تضمنون لأنفسكم أرصفة غير الأرصفة التي تقفون اليوم عليها؟