تنتمي الكتابة الفردية، غير المؤسساتية، إلى الحقل الثقافي الروحي، والإنشاء الذاتي المعبّر عن موقف أدبي جمالي وأخلاقي وفلسفي ومعرفي في العموم.

وتأسيساً على هذا، ظهر مفهوم الكاتب، المفهوم الذي صار يدل على المنتمي إلى الكتابة الذي أشرت إليه. وبهذا المعنى، فإن الكتابة ظهور الذات في النص. فالشاعر يظهر في القصيدة، والروائي يظهر في الرواية، وهناك من يظهر في المقالة والمسرحية والنص والفلسفي وهكذا.

ولكن كيف نميز بين الكتابة الأصيلة النابعة من قلب الذات المُحبة والمهمومة والصادقة، والكتابة الانتهازية التي تصدر عن قيم رديئة بدافع التزلف والمصلحة وشهوة الحضور؟.

ليس لدينا معايير دقيقة تسمح لنا بمثل هذا التمييز إلا من الخبرة بالكاتب، ومن تناقض نصوص الكاتب في الموضوع نفسه، ومن النقد بدافع شهوة الحضور الذي يقوم به متوسطو الموهبة لفحول الكتابة، أو بتناول موضوعات ترضي الجمهور طمعاً في شهرة.

الكتابة الانتهازية هي الكتابة المرتبطة بالمنفعة الفردية، أي بالكسب، الذي يعود على الكاتب من كتابته.

وسائل يسأل: هل يمكن لشاعر كبير أن يكتب قصيدة انتهازية؟ الجواب نعم. ولكيلا تقع الشبه بأحد من المعاصرين، دعوني أضرب المتنبي مثلاً على ذلك.

فجميع قصائد المتنبي في كافور الإخشيدي، كانت قصائد انتهازية، ويكفي أن نقرأ قصيدته في هجاء كافور بعد رحيله عنه، لندرك كم كان يمثل الحب والمدح لكافور.

حسب المرء أن يقارن بين هذين النصين، ليدرك انتهازية المتنبي:

وأخلاق كافور إذا شئت مدحه

                 وإن لم أشأ تملي علي وأكتب

إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه

                  ويمم كافوراً فما يتغرب

فتى يملأ الأفعال رأياً وحكمة

                  ونادرة أحيان يرضى ويغضب

إذا ضربتْ في الحرب بالسيف كفُهُ

                  تبينت أن السيف بالكف يضرب

تزيد عطاياه على اللبث كثرةً

                   وتلبي أمواه السحاب فتنضب

أبا المسك هل في الكأس فضل أناله

                   فإني أغني منذ حين وتشرب

إن المتنبي يكتب هنا طمعاً في فضل يناله. ثم يكتب بعد يأس من نيل الفضل الذي يريده قائلاً:

إني نزلت بكذابين ضيفهم

                     عن القرى وعن الترحال محدود

جود الرجال من الأيدي وجودهم

                       من اللسان فلا كانوا ولا الجود

ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم

                        إلا وفي يده من نتنها عود

أكلما اغتال عبد السوء سيده أو خانه

                         فله في مصر تمهيد

صار الخصي إمام الآبقين بها

                         فالحر مستعبد والعبد معبود

لا نحتاج إلى تعليق حول هذا التناقض في المدح والهجاء لشخص هو عينه.

لقد عبّر المتنبي عن ذاته في الذم، وعن موقفه مما أطلق عليه العبد، حتى ليمكن القول بأنه كان كاذباً في المديح، وصادقاً في الهجاء. فالهجاء يعبر دائماً عن صدق الهاجي، بمعزل عن صدق النص عن المهجو، فقد يكون الهجاء لشخص متناقض مع صفات الشخص المهجو، ويكون الهجاء ثمرة كره أو حسد. وباستطاعة المرء أن يحول هذه الظاهرة إلى معيار للحكم على النص الانتهازي، أو على الكتابة الانتهازية، سواء كانت نثراً أو شعراً.

إن الكتابة الانتهازية لا علاقة لها بالقيمة الجمالية للنص، فقد يكون النص جميلاً، وقد يكون عادياً أو سيئاً، بل المسألة هنا مرتبطة بالهم، بالموقف، بالعفوية المبدعة، بالصدق والكذب. ولا يحسبن المرء أن الانتهازية مرتبطة بنص المديح، والمديح قد يكون صادقاً، بل المسألة أعم من ذلك، فتزييف الواقع دفاعاً عن الشر هو انتهازية، وتبرير السلوك اللاأخلاقي هو انتهازية، وهكذا. والحق أن التحرر من الكتابة الانتهازية، لا يكون إلا بتحرر الكاتب، فالكاتب الحر يبني علاقة مع الحق والخير والجمال، مع المعرفة المتحررة من الأيديولوجيا، بوصفها وعياً زائفاً بالعالم.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني