بعد أن قاد الدعوة العباسية وهي غِرّةٌ تتلمّس الحياة حتى استطاع أن يجتاح بها خراسان وبلاد المشرق ثم ما تلا ذلك من إسقاط دولة بني أميّة، سأل أحدهم أبا مسلم الخراساني عن «أشد أهل القتال»، فقال له مَن تمرّس على الحرب وخَبَرَ أطباع الرجال: «أشدُّ أهل القتال: مُتغضِّبٌ مِن ذِلَّة، ومُحامٍ عن ديانة، أو غيور على حُرمة»!

هؤلاء الأشخاص الذين ذكر صفتهم الخراساني هم أشبه بجهاز المناعة الذي يقي الجسم مما يعتريه من تدخل خارجي خاطئ، وهم إنْ أردنا أن نذهب بعيداً أقرب لبرامج الحماية للحواسيب الآلية، فالأمم لا تحميها الأسوار ولا تقيها مضادات الصواريخ والبوارج الحربية إن كان داخلها مخترقاً ونسيجها الداخلي مريضاً ممزقاً!

إنّ جسم الإنسان يواجه يومياً حوالي 60 ألف جرثوم وميكروب في معارك دفاعية طاحنة لا تتوقف، ولنقف فعلاً على ما حولنا نشير إلى أنّ الجرام الواحد من التربة يحتوي على ما يقارب من 40 مليون خلية بكتيرية، ويوجد حوالي مليون خلية بكتيرية في الملي ليتر الواحد من المياه «العذبة»، وفي الظروف الطبيعية يمكن للبكتيريا النمو والانقسام بسرعة كبيرة جداً ليصل تعدادها إلى الضعف في غضون 9 دقائق فقط!

قس على هذا أيضاً الاستهداف «الجرثومي» لكنها جراثيم تستهدف الفضيلة، والذي أصبحت وتيرته غير مسبوقة للمجتمعات المحافظة تحديداً، بل وصل الأمر هذا الأسبوع أن يصطف العالم «المتحضر» بقيادة أمريكا وأوروبا للتنديد بقرار أوغندا بتجريم المثلية، وهددوا بفرض عقوبات عليها، ليتضح أنّ العفن قد صار هو الطبيعي عند أولئك وأن الترويج لما يتمخض عنه هذا العفن قد أصبح نهجاً لا عودة عنه، وأنّ على المتبقّي من العقلاء وأهل العفة والشرف والفطرة السليمة أن يجدوا ملاذاً يهرعون إليه بعد أن كشّر الغرب المنحلّ عن أنيابه لفرض انحلاله وسقوطه وقذارته على الجميع!

إن الدول ومجتمعاتها كيان كبير مكوّن من فسيفساء بشرية ذات قطع ومكونات صغيرة هائلة العدد، لكن أي خلل بها لا بد أن يظهر مع الوقت بشكل أكبر على ذلك الكيان، هذه المكونات الصغيرة هي التجمعات البشرية أو القبائل الجديدة بأشكالها المختلفة: الأسرة، الحي، العشيرة، النوادي الاجتماعية، مؤسسات النفع العام وأمثالها، وما دام تماسكها يُثَبّت أركان البلد وتفكّكها يُضعِفه، فإنّ الوقت قد أزِف لنعيد اكتشاف «القبيلة» فقد تكون هي ذلك الملاذ الذي لم يعد للبشر بعد الله سواه!

يقول الكاتب والمحاضر ديفيد غورتين David Gorteen: «خلال 150 ألف سنة كانت البشرية متصلة بشدة بطابعها القبلي، كان شعور الفرد بأهمية أن ينتمي لجماعة تدافع عنه ويدافع عنها، ووحدهم من بقوا أوفياء للقبيلة حَمَوا مصائرهم، إن القبيلة متجذرة في جينات البشر»، بينما يسلك جيف جوينز Jeff Goins - والذي يذكر أنّه أول من تحدث عن القبيلة كمرجعية «مُعادَة للحياة» قبل سيث غودين في كتابه الشهير قبائل Tribes - طريقاً يضع به تعريفاً ملهماً للقبيلة بقوله: «القبيلة هي ذلك الكيان الصغير بما فيه الكفاية لتشعر بالخصوصية، والكبير بما فيه الكفاية ليخلق فارقاً»، وحتى لا يصاب البعض بالحيرة بين مصطلح قبيلة وبين الوضع في دول الغرب، فإنّه من المهم أن نعيد تعريف القبيلة والتي تقوم على قاعدتين مهمتين: الخصوصية والتأثير الفارق!

إن القبيلة في العُرف الغربي حالياً هي كل مجموعة أو طائفة تتمحور حول فكرة أو شخص مُلهِم (ولا يهم إن كان إلهامه إيجابياً أم سلبياً)، لذلك فإنّ متابعي مسلسل صراع العروش قبيلة، وأتباع دونالد ترامب قبيلة، ومناصري برشلونة قبيلة، والنباتيين قبيلة، وأنصار البيئة قبيلة، بل حتى المؤمنين بأن الأرض مسطحة قبيلة، يتشاركون ذات الفكرة التي يدورون في فلكها ويتحمسون لذات الخطاب «التعبوي» الذي يطلقه القائد أو الشخص المتبوع!

المشكل في أمر القبائل الجديدة أنّ الأتباع تُغلَق عقولهم طواعية وبشكل غير قابل للتفاوض أو النقاش أمام أي فكرة يطرحها «خصومهم»، والخصم هنا هو كل من لا يُشاركهم ذات الأفكار والمعتقدات، لذا يبدو هذا الواقع الجديد القديم للقبائل خطيراً في التبعات اللاحقة التي لا يخفى قدومها على عاقل، وفي عالم أصبح الإعلام به مفتوحاً تماماً ولا يمكن التحكم به إلا من خلال غرف مظلمة تُمرِّر ما تشاء وتحجب ما لا تريد، أضحى الخطر كبيراً وتكاد تنعدم الحيل لإيقافه.

البشرية تمر بمخاض عسير، والتهديد يطال الجميع، ومن يرجو النجاة تبحث عيناه بقلق عمّا حوله ومَن حوله علّ وعسى أن يجد حلاً يتمسك به أو قشةً يتعلّق بها، وربما نرى القبيلة هي الحل لمواجهة التهديد الوجودي للفضيلة وللبشرية معها، لكن هذه القبيلة بهيئتها الجديدة تُثير الكثير من الريبة بشأنها!