مرت يوم أمس الذكرى السادسة والخمسون لنكسة الخامس من يونيو 1967م، كما اتُّفِق على تسميتها في التاريخ العربي الحديث، ولا أعرف، لأنني أكتب هذا المقال قبل موعد الذكرى بيومين، إن كان سيتوقف أمامها، أو سيلتفت إليها، أو سيتذكر المناسبة أحد، أم أنها ستمر مرور الكرام، مثلما مرت عشرات النكسات والنكبات والخيبات غيرها، من باب أن الحياة مستمرة والقطار لا ينتظر أحداً، وأن ما حدث أصبح مجرد ذكرى، وأن الوقوف على الأطلال طقس لا يمارسه إلا الشعراء فقط، وأنه ذهب مع شعراء الجاهلية والعصور السابقة.

هذه وجهة نظر ربما يكون لها وجاهتها لدى الجيل الحالي، وهو جيل من الصعب تحقيق انتصار عليه في جدل من هذا النوع، خاصة وأن مرور 56 عاماً على نكسة كانت مفترق طرق في تاريخ الأمة العربية يعتبر مدة زمنية طويلة إلى حد ما، تجعل جيلاً كاملاً أو جيلين تقريباً من أبناء الأمة منفصلين عنها، حتى لو كان بعض أبناء الجيل الذي عاصرها، وإن لم يشارك فيها، حياً يتذكر تفاصيلها وأحداثها وأبطالها، الذين لم يعد أحد منهم على قيد الحياة بعد كل هذه السنوات، بينما بقيت هي خنجراً مغروساً في قلب الأمة، من الصعب انتزاعه.

لا شك أن ميزان حساب الأرباح والخسائر من تلك النكسة لا يميل لصالح العرب بأي شكل من الأشكال، ووضع العرب بعد النكسة لم يعد كما كان قبلها، فقد اهتزت الصورة كثيراً، وصحا العرب على حلم تبدد في غمضة عين، وغدا كابوساً جاثماً على صدورهم سنوات طويلة، يرفع قدميه عنها بين آن وآخر ليعود إلى وضعهما من جديد وبضغط أكبر، حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه، وأصبحت تلك النكسة قطرة في بحر النكسات التي تلتها، وأنهار المآسي التي غرقت فيها الأمة على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن، حتى أصبح البعض، ممن عاصروا تلك الأيام وما زالوا يتذكرونها، يتمنون لو رجع الزمن 56 عاماً إلى الوراء، فربما عاد بصيص الأمل أقوى، رغم عتمة تلك الأيام ومرارتها في القلب والوجدان العربي.

صحيح أن الأمة تعرضت لمنزلق تاريخي كبير وخطير بسبب تلك النكسة، وصحيح أن قادة تلك المرحلة وزعماءها يتحملون المسؤولية الكاملة عما حدث للأمة العربية، وليس للدول التي خسرت جزءاً من أراضيها فقط، وصحيح أنهم حُمِّلوا عبئاً كبيراً للخروج من النفق الذي جرّت الأمة إليه، ولكن الصحيح أيضاً أن تلك النكسة، التي كانت بحجم جبل تهاوت صخوره على رأس الأمة، لم تجعل الكثيرين يعون الدرس الكبير الذي كان يجب أن يعوه من تلك الكارثة، فتوالت على الأمة كوارث كثيرة، كان يمكن تجنبها، خاصة وأن مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي شهدت زعماء عرباً، على رأسهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كان لهم من الحكمة ورجاحة العقل ما سخروه لخدمة مصالح الأمة، والعمل على ترميم ما انكسر، وتوجيه النصيحة لتعديل المسار وتحقيق التضامن العربي، خاصة بعد ما حققه الجيشان المصري والسوري في حرب السادس من أكتوبر عام 1973م، رغم ثغرة الدفرسوار وإعادة احتلال الجولان، لكن تهور البعض، وطموحات البعض، وضيق أفق البعض، كل هذه الأشياء أطاحت بآمال الأمة، وأعادتهم إلى الوراء كثيراً، حتى غدت النكسة أكثر رحمة بها مما حدث بعد عقود بعدها، وها نحن نقف اليوم أمام أطلال تلك النكسة، والوطن العربي أكثر تمزقاً وفرقة مما كان عليه وقتها.

هل من الحكمة أن نمر مرور الكرام على 56 عاماً من تاريخ الأمة، شهدت أحداثاً مأساوية كبرى، بحجة أننا لسنا من هواة الوقوف على الأطلال، أو البكاء على اللبن المسكوب؟

لا أميل إلى هذا الرأي، خاصة وأننا نعيش مرحلة تغيرت فيها الحسابات والتحالفات والتكتيكات، وإن لم تتغير كثيراً المصالح والاستراتيجيات، وفي الأمة جيل من أبناء أولئك القادة العظام، الذين رحلوا عن دنيانا، يعرف جيداً التغيرات، ويستطيع التعامل معها بشكل يحفظ للأمة مصالحها، ويحقق لها من الآمال ما أخفقت في تحقيقه خلال العقود الماضية، بسبب المغامرات التي أقدم البعض عليها من غير أن يحسب عواقبها، وبسبب جنون العظمة الذي قاد البعض إلى تدمير بلدانهم، وبسبب تخاذل بعض الحلفاء وتعارض مصالحهم مع مصالح الأمة.

إنها ليست دعوة إلى إحياء ذكرى النكسات، بقدر ما هي دعوة إلى أخذ الدروس والعبر منها. هذا ما تعلمناه من الذين رحلوا، عليهم رحمة الله، وهذا ما نريد أن ننقله إلى المقيمين والقادمين، فالنكبة الكبرى هي ألا نتعلم من النكسات والنكبات الأخرى.