وصفه مفتي عُمان الشيخ أحمد الخليلي بـ«الداهية العملاق، الذي حلب الدهر أشطره، وامتطى منه صهوتي ذلوله وجموحه، فكان في حاليه الفارس المجلي والمقدام المصدام»، وكتب عنه المؤرخ العُماني الدكتور محمد العريمي قائلاً إنه: «ولد رجلاً قبل أن يبلغ الحلم، وأصبح زعيماً قبل أن يعرف الشعر ذقنه، وتوفي ولحيته أطول من برج الريح»، وأضاف في دراسة عنه نشرتها صحيفة أثير العُمانية الإلكترونية قائلاً إن أحداثاً كثيرة ومثيرة ارتبطت بحياته الحافلة، ما يستلزم مخرجاً هوليوودياً مبدعاً «كي يلملم بعضاً من محطاتها في فيلم شائق».

إنه أحمد بن إبراهيم البوسعيدي، الذي يعد واحداً من أبرز الشخصيات العُمانية في القرن العشرين، وأحد أكثر المسؤولين نفوذاً وتأثيراً وثقلاً في عهد السلطان سعيد بن تيمور الذي حكم من سنة 1932 وحتى سنة 1970.

ولد أحمد بن إبراهيم بن قيس بن عزان بن قيس بن أحمد بن سعيد البوسعيدي في ولاية الرستاق في حدود سنة 1895م، ابناً لوالده إبراهيم بن قيس أخي الإمام عزان بن قيس الذي تولى إمامة عُمان في الفترة من سنة 1868 وحتى سنة 1871.

وكان والده إبراهيم من الشخصيات السياسية البارزة في النصف الثاني من القرن 19، بدليل ورود ذكره في الكثير من أحداث ووقائع تلك الحقبة، وخصوصاً أنه كان حاكماً للرستاق، المركز التجاري والإداري المهم للمناطق الشمالية من عُمان، ناهيك عن أنه شارك في حروب كثيرة واستطاع أن يخضع صحار وشناص وصحم قبل أن يخرج منها في سنة 1872 في أعقاب صلحه مع السلطان تركي بن سعيد. وحينما توفي أخوه الإمام عزان سنة 1871 أراد الناس مبايعته إماماً جديداً لكنه رفض. وفي تاريخ 31 مايو من سنة 1898 توفي فدفن في محلة «بين القرن» بالرستاق تاركاً خلفه ولديه سعيد بن إبراهيم وأحمد بن إبراهيم (المترجم له) الذي كان وقتها يبلغ من العمر ثلاث سنوات تقريباً.

هذا عن والده، أما والدته فهي كريمة الشيخ ناصر بن سيف الشقصي من وجهاء الرستاق، وعمته والدة جدة السلطان سعيد بن تيمور، وأخوه سعيد بن إبراهيم الذي تولى حكم الرستاق خلفاً لوالده وظل كذلك حتى تاريخ مقتله في مارس من سنة 1912، وأخته أصيلة بنت إبراهيم البوسعيدية التي عرفت بالمراس الشديد والشجاعة والإقدام في الدفاع عن سلطة إخوانها في الرستاق.

درس أحمد بن إبراهيم في كتاتيب ولاية الرستاق على يد خيرة علماء ومربي زمنه، ومنهم سيدة شاعرة وناسخة للكتب وصاحبة نشاط سياسي من ولاية بهلا هي «عائشة بنت سليمان بن محمد الوائلية» التي علمته القرآن الكريم والعلوم الشرعية غير أن مدرسته الحقيقية كانت الحياة والتجارب التي راكمها والأحداث التي عاصرها والتحديات التي واجهها، الأمر الذي أسهم في صقل شخصيته وتوسع مداركه.

أول الأحداث الخطرة والأليمة التي تعرض لها وقع وهو في سن 17 عاماً ففي 13 مارس من سنة 1912، وبينما كان مقيماً بقلعة الرستاق إبان حكم أخيه سعيد بن إبراهيم، تظاهر اثنان من أبناء عمومته وهما محمد وإبراهيم ابنا فيصل بن حمود بن عزان بدخول القلعة من أجل رؤية وليد أختهما المتزوجة من الحاكم حينذاك سعيد بن إبراهيم، بينما كان هدفهما اغتيال الأخير. وطبقاً لما رواه الإمام نورالدين عبيد الله السالمي في تحفته (كتاب تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان)، فإن هذه الحادثة انتهت بمقتل الرجلين ومعهما الحاكم، بينما تمكن أحمد من النجاة بنفسه، قبل أن يعود ويسيطر على الموقف بمساعدة أنصاره ويسترد قلعة الرستاق وينصب حاكماً على الولاية خلفاً لأخيه.

وبعد ذلك توالت عليه الأحداث الخطرة، ولا سيما في الفترة ما بين سنتي 1913 و1920، وهي الفترة التي أسست فيها إمامة عُمان بقيادة سالم بن راشد بن سليمان الخروصي في زمن السلطان فيصل بن تركي بن سعيد سلطان مسقط وعُمان إذ كان أحمد يرغب في تثبيت دعائم حكمه لولاية الرستاق وما جاورها، بينما كان الخروصي راغباً في مد نفوذه وضم المنطقة إلى دولته. وقد جرت بينهما محاولات عدة للتصالح ولكنها لم تؤدِ إلى نتائج دائمة وثابتة، فانتهت إلى حصار ومواجهة مسلحة في سنة 1917 ثبت فيها أحمد خمسة أشهر، وتلا ذلك خروجه بوساطات محلية من قلعة الرستاق سالماً وتحصنه بحصن الحزم الذي كانت أخته أصيلة قد استولت عليه بعد طلبها النجدة من السلطان تيمور بن فيصل بن تركي الذي أرسل لها جيشاً بقيادة أخيه حمد بن فيصل. وقام أحمد بعد ذلك بعدة محاولات لاسترداد قلعته ونفوذ أجداده في الرستاق من دون جدوى، وخصوصاً بعد اغتيال الخروصي في يوليو من سنة 1920. وعليه آثر أن يغادر الرستاق نهائياً إلى مسقط، ليصبح من مؤيدي السلطنة ضد الإمامة.

في مسقط بدأ الرجل حقبة مختلفة من حياته، وخصوصاً بعد تولي السلطان سعيد بن تيمور مقاليد الحكم في فبراير من سنة 1932، في أعقاب تنازل والده تيمور بن فيصل بن تركي، إذ وجد فيه السلطان الجديد الخبرة والحنكة ما جعله يعتمد عليه لجهة إدارة الشؤون الداخلية كافة للبلاد تحت تسمية «ناظر الداخلية» أي وزيرها. ومنذاك وحتى بدايات حكم السلطان قابوس في سنة 1970 شهدت حياته أربعة عقود متواصلة من العمل السياسي الحافل بالأحداث والمتغيرات الداخلية والخارجية.

وكانت نظارة الداخلية، إلى جانب نظارة الخارجية أهم جناحين للحكم في زمان السلطان سعيد بن تيمور، وكان من ضمن مهام أحمد بصفته ناظراً للداخلية الإشراف على شؤون الولاة والقضاء والقبائل، علاوة على رفع التقارير إلى السلطان عن أمور الدولة. ولعل أحد الشواهد على ثقة السلطان الكبيرة به تكليف السلطان له بتسيير الأمور كافة في أثناء غيابه عن مسقط ووجوده في ظفار، ما جعله في الواقع ساعداً أيمن لسيده.

أما الشواهد على أدائه الرفيع لمقتضيات عمله وواجباته الوظيفية واستغراقه في العمل من دون كلل فكثيرة. ومما نقله العريمي عن مرشد بن محمد الخصيبي في كتابه الموسوم «عُمان أيام زمان»، وعن الشيخ حمود بن سالم السيابي في كتابه «أغاريد لمسقط ومطرح» واللذين تحدثا عن البرنامج اليومي الوظيفي لأحمد يمكن القول إن الرجل كان يبدأ صباحه مع صلاة الفجر، فيصلي ثم يبقى على سجادته حتى الإشراق ليفطر، ثم يتوجه إلى مقر عمله في نظارة الداخلية الواقعة في «بيت البرزة» المجاور لقصر العلم السلطاني، ويبقى فيه حتى انتهاء العمل الحكومي الرسمي في الثانية بعد الظهر، وكان في هذه الفترة يبدأ أولاً بفحص بريده المكتظ بمخاطبات تشمل أموراً ذات صلة ببيت المال وتعيين الوكلاء المشرفين عليه، وأوضاع الأفلاج والزكوات، ومحاسبة الولاة المقصرين، والوقوف على احتياجات الحصون والمراكز الحكومية من طلبات وتوفير ما ييسر عملها، ثم يستقبل العُمانيين القادمين من خارج العاصمة ويحل مشكلاتهم ومطالبهم، ويبت في القضايا العامة المستعجلة، ويتداول مع قضاة المحكمة الشرعية وقضاة محكمة الأجانب، ويجري الاتصالات عبر خط هاتفي ساخن مع السلطان في ظفار، لوضعه في صورة آخر التطورات أو تلقي الأوامر والتوجيهات منه في شأن قضايا المصلحة العامة.

ومما أخبرنا به الخصيبي أيضاً أن الرجل كان يعي جيداً مدى صعوبة المواصلات وبدائية الطرق آنذاك ثم صعوبة الوصول إليه في أوقات الدوام الرسمي للقادمين من الولايات البعيدة، ولذا كان يجلس يومياً في منزله من العصر وحتى ما بعد المغرب، شارعاً بابه لاستقبال هؤلاء والنظر في قضاياهم والبت فيها.

وبمراجعة الرسائل والمخاطبات والتقارير الحكومية الرسمية، وبالرجوع إلى الوثائق البريطانية فترة عمل أحمد ناظراً للداخلية وساعداً أيمن للسلطان سعيد بن تيمور نجد أنه أدى بتكليف من قائده أدواراً مهمة تجاوزت صلاحيات منصبه الوزاري إذ أدى دوراً عسكرياً في حروب تلك الحقبة، ولا سيما في حرب الجبل الأخضر ما بين سنتي 1954 و1959، تمكن فيها من الاستيلاء على مدينة نزوى عاصمة دولة الإمامة، وأدى دوراً تفاوضياً لتسوية الصراعات بين بعض القبائل ونزع فتيل تصادمها، ودوراً بناء في تجهيز الجيوش من أبناء القبائل للدفاع عن بعض المناطق المهددة.

إلى ذلك كان له دور واضح إبان مرحلة التنقيب عن النفط في مناطق عُمان الداخلية بدليل مراسلاته مع شيوخ القبائل القاطنة هناك في شأن التمهيد لبدء أعمال التنقيب وضرورة التعاون مع شركات النفط، ناهيك عن دوره في حفظ الأمن واستتبابه في مناطق تابعة للسلطنة خارج عُمان.

ولم تقتصر أدوار الرجل على ما سبق، فقد تجاوزها إلى الشؤون الزراعية (اهتم بمشكلة انتشار آفة في نخيل «ولاية الكامل والوافي» في شرقي البلاد وأصدر أوامره بمكافحتها)، وإلى شؤون التعليم (أصدر بياناً في سنة 1945 عن رغبة الدولة في فتح مدرسة داخلية بمسقط لأبناء البلاد القاطنين خارجها مع توفير المسكن والغذاء والكساء والمستلزمات الدراسية مجاناً)، وإلى الشؤون الاجتماعية (أصدر أوامر إلى شيوخ القبائل والولاة في سنة 1965 بألّا يزيد مهر النساء على 500 قرش حداً أقصى).

أما أنشطة أحمد الاجتماعية فقد شملت مشاركة المجتمع المسقطي الاحتفال بالأعياد والمناسبات الوطنية والدينية، وإقامة الولائم الكبيرة في أيام عيدي الفطر والأضحى على نفقته الخاصة، ومشاركة عامة الناس في صلاة التراويح وما يعقبها من ولائم رمضانية، واستقبال ضيوف البلاد والاحتفاء بهم والسهر على راحتهم، وغير ذلك.

وبسبب حساسية منصبه والظروف السياسية التي صاحبت عهد السلطان سعيد بن تيمور، تعرض أحمد لمحاولتي اغتيال متلاحقتين فرديتين، نجا منهما، وأخطرهما تلك التي وقعت في 10 ديسمبر من سنة 1959 بينما كان مسافراً من مسقط إلى بومباي على متن باخرة النقل البريطانية (دواركا Dwarka). وقد أتى على ذكر تفصيلات الواقعة «وندل فيليب» في كتابه «عُمان تاريخ له جذور»، وملخصها كما نقله العريمي، أن الرجل كان يستعد للنوم في القمرة المخصصة له في الباخرة، ولكنه لسبب ما قام بتغيير مبيته، ولم تمضِ سوى دقائق معدودة إلا وقنبلة تنفجر وتدمر ثلاث قمرات بما فيها مبيته الأول، وتحرقها تماماً. ونتج عن ذلك إصابة أحمد بحروق في قدميه وذراعيه وأنفه، ما جعل القبطان يسارع بالعودة إلى مياه الخليج.

وفي 26 سبتمبر من سنة 1981، أي بعد نحو تسع سنوات من تخليه عن مسؤولياته ضمن حركة التغيير والتحديث التي أجراها السلطان الراحل قابوس بن سعيد في أطر وهياكل الدولة بعيد تسلّمه الحكم في يوليو من سنة 1970، انتقل أحمد إلى جوار ربه عن عمر تجاوز الخامسة والثمانين.