العشق في المجتمعات الشرقية المحافظة يتسبب في إذلال صاحبه، وربما دفعه إلى الجنون والهلاك على نحو ما حدث مع المجنونين قيس بن الملوح وقيس بن الذريح الشهيرين بمجنون ليلى ومجنون لبنى على التوالي. فعلى الرغم من ادعاء البعض بأن ما ينطوي عليه العشق ليس إذلالاً وإنما تضحية وعطاء وتنازل يبرهن به العاشق على صدق عشقه. فقد قيل إن الجنون فنون والعشق فن من فنونه.

وفي السياق ذاته قال بعض العشاق: «قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين، العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين». وقد عكس غوار الطوشة (دريد لحام) هذا في إحدى مسرحياته حينما قال: «يييه.. يضرب الحب شو بيذل». وفي الأدب العربي يمكن العثور على آلاف الأبيات الشعرية التي تصف لوعة العاشق وما يلاقيه من كمد وقهر وإذلال على يد محبوبته. ومن يستمع إلى الغناء العربي الذي كان سائداً في النصف الأول من القرن العشرين، على وجه الخصوص، وبطلا هذا الغناء هما محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، يلفته ورود عبارات «الذل» و«التذلل» في مخاطبة الحبيب. فالمحب يبذل نفسه حتى التهلكة من أجل أنْ يَرضى الحبيب عنه، ويستحضرنا صرخة أم كلثوم «عزة جمالك فين.. من غير ذليل يهواك» في أغنيتها «يا اللي يشجيك أنيني».

على أنّ قصيدة «يا باخلا بالوصل» تظل، دون شك، واحدة من أجمل قصائد عتاب المحبين وأقواها، وأكثرها صرامة لجهة لوم العاشق لمعشوقته على إذلالها له. والقصيدة قديمة نُظمت في القرن 18 الميلادي، وقرأها ورددها الكثيرون، وغناها العديد من مطربي الصوت الخليجي ابتداء من ضاحي بن وليد في البحرين وانتهاء بمحمد علي سندي في الحجاز، كما استخدم مطرب القدود الحلبية السوري صباح فخري مطلعها كموّال في بعض أغانيه.

وينسب البعض خطأ القصيدة لشعراء من اليمن، فيما الحقيقة هي أن صاحبها هو الإمام سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، ثاني حكام الدولة البوسعيدية المولود في عام 1774 والمتوفى بمرض الجدري سنة 1821. وقد ثبتَ أنّ الإمام سعيد البوسعيدي كان شاعراً لبيباً فصيح اللسان، وعارفاً بمعاني الشعر وبيانه، وقادراً على التمييز ما بين الركيك والحسن منه، على الرغم من أنه كان مقلاً لم يكتبْ سوى قصائد معدودة. من أشهر هذه القصائد على الإطلاق قصيدة «يا باخلا بالوصل»، التي لا يُعرف تحديداً من هي المقصود بها أي من هي تلك المرأة التي أحبها فخانته وغدرتْ به فجعلته ينظم قصيدته الخالدة هذه التي تقول أبياتها:

يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني

وتركتني حيران صباً هائماً أرعى النجوم وأنت في نوم هني

عاهدتني أنْ لا تميل عن الهوى وحلفت لي يا غصن أن لا تنثني

هبّ النسيم ومال غصنُ مثله أين الزمان وأين ما عاهدتني

جاد الزمان وأنت ما واصلتني يا باخلاً بالوصل أنت قتلتني

واصلتني حتى ملكت حشاشتي ورجعتَ من بعد الوصال هجرتني

الهجر من بعد الوصال قطيعة يا ليت من قبل الوصال تركتني

أنت الذي حلفتني وحلفت لي وحلفت أنك لا تخون فخنتني

لما ملكت قياد سرى بالهوى وعلمت أني عاشق لك خنتني

ولأقعدن على الطريق فاشتكى في زي مظلوم وأنت ظلمتني

ولأشكينك عند سلطان الهوى ليعذبنك مثل ما عذبتني

ولأدعين عليك في جنح الدجى فعساك تبلى مثل ما أبليتني.

 

لقد شدتْ هذه القصيدة اهتمام الكثيرين، وخصوصاً بعدما لحنها الموسيقار الكويتي الراحل يوسف الدوخي كصوت خليجي نابض بالإيقاعات الجميلة، وأداها شقيقه الفنان الراحل عوض الدوخي بصوته الرخيم الساحر. ولعل من آيات اهتمام الشعراء والأدباء بها قيام أحدهم بكتابة رد عليها على لسان المرأة المعنية، كما قام شاعر آخر بتشطير القصيدة.