جلس شخص يتعافى من مرضه إلى صديق، فأخبره أن بداياته كانت وجعاً في المعدة، فأخبره الآخر أنه كان يعاني أيضاً من وجع في معدته.
وأضاف المريض إن حالته ساءت حتى أصيب بحمى قوية، فرد الآخر بأنه أصيب مرة بحمى وأدخل إلى الطوارئ بسببها، فأكمل المريض قائلاً إنه حالياً في وضع أفضل لكن يعاني من بعض الصداع، فقال صديقه إنه يصاب دوماً بصداع أشد من الشقيقة، هنا انفجر المريض وهو يقول: «يا أخي أنا أشكي لك.. ما أتحداك!».
البعض للأسف لا يرى الدنيا إلا شيئاً يجب أن تدور حوله هو، نرجسية طاغية أخرجتها منصات التواصل الاجتماعي لننصدم بواقع غريب وحقائق مختلفة عن أشخاص ظننا ردحاً من الزمن أننا نعرفهم فاكتشفنا أشخاصاً آخرين، ففضلاً عن أولئك المرتحلين لأجمل البلدان دوماً، والمرتدين لأفضل الملابس.
والمرتادين لأغرب وأغلى المطاعم، وفي كل الصور والفيديوهات «تتشقق» الابتسامة المصطنعة على وجوههم، يخرج لنا فريق آخر على طرفٍ نقيض - فهو لا يملك ما يملك الصنف الأول - ولكن مماثل له في اللهاث وراء الأضواء والبحث عن الشهرة!
هذا الصنف يهوى أن يكسر قلوب الآخرين من أجله ويستدر تعاطفهم، بطلب الدعاء لأنه مريض، أو وضع تغريدة يرجو من الآخرين فيها أن يسامحوه ويذكروه بخير إن رحل من هذه الدنيا، رغم أنك قد مررت عليه قبل دقائق في مطعم لم يترك فيه صحناً لم يجعله «قاعاً صفصفاً»،.
هذا السلوك لا يبعد عما يعرف بمتلازمة منشوزن Munchausen Syndrome وهو خلل ذهني يجعل الإنسان يختلق أو يبالغ في تعرضه لمرض أو إصابة جسدية لكسب التعاطف من الآخرين!
لا أتكلم من منطق مثالي هنا، فنحن كائنات اجتماعية، والكثير يحب بنية أو بعفوية أن يشير لنفسه أمام الآخرين، فالدراسات المسحية تقول إننا نقضي 40 % من الوقت نتحدث عن أنفسنا وما يجرى أو جرى لنا، بينما يقفز هذا الرقم إلى 80 % أي الضعف عندما نضغط على أزرار موقع التواصل الاجتماعي الذي نتفاعل فيه، وليس العيب في الحديث عن النفس، ولكن فيما يأتي خلال ذلك أو ننتظره من بعده!
فمن جانب هناك مقارنات أصبحت تخرج ونحن نرى أولئك الذين يعيشون حياة وردية، جعلت منصات التواصل لا تبدو مكاناً للاستفادة العلمية ولا أداة للتحفيز.
ولكن منصة مدمرة يشعر بها الإنسان أنه أقل قدراً وأفقر حالاً وأدنى استمتاعاً بالحياة من أولئك الذين لا يتوقفون عن تصوير جوانب حياتهم المرفهة، والتي لا ينقص «زيفها» إلا صوت سعد بن عاقول في مسلسل درب الزلق قائلاً: «بسنا فلوس يا حسين»!
من جانب آخر أصبح الهوس بالحصول على الإعجاب «اللايكات» أمراً يشير لمكانة الإنسان الاجتماعية في العالم الافتراضي، لذا يحرص أن يرسم لنفسه صورة أمام الدنيا هي في الحقيقة تلك الشخصية التي طالما حلم أن يكون عليها، فيضع دوماً الأشياء الجميلة التي قام بها والأماكن الرائعة التي زارها والأشخاص المهمين الذين جلس معهم وصور برفقتهم.
ولا يختار إلا صورة وضع عليها «فلتر» يجعله يخرج بصورة جميلة ويغضب من صاحبه إن وضع صورة له بمعيته ولا يبدو فيها بنفس «بهاء» ما وضعه هو، وحتى الرسائل تخرج بشكل حكيم ولا يمنع أن تكون «ملطوشة» فالمهم هي «اللايكات» ومن يكشف «اللطشة» يطير لقائمة المحظورين!
من المتعارف عليه أن الجسم يفرز الدوبامين Dopamine عند الشعور بالسعادة لأكل حلوى أو كسب أموال، ولكن المثير أن دراسات حديثة أكدت أن الجسم يفرز الهرمون ذاته في كل مرة يرى الإنسان مزيداً من حالات الإعجاب على منشوراته، مع كل إعجاب هناك جرعة دوبامين إضافية، وكلما زادت حالات الإعجاب زادت جرعات الدوبامين.
وهكذا في حلقة لا تنتهي، هنا اكتشف العلماء حقيقة جديدة وهي أن الدوبامين ليس مسؤولاً عن صنع السعادة فقط بل هو محفز للبحث المستمر عنها!
البحث عن الإعجاب أصبح مَرَضياً، فمن أجل لقطة «سيلفي» مميزة يسقط أحدهم من قمة جبل، ويصطدم رأس آخر بلوحة وهو يخرج رأسه من نافذة قطار أو يمزقه سبع متوحش من أجل فيديو جريء يجلب مزيداً من الإعجاب، هناك تغير كبير حدث في السلوك الإنساني بسبب تفاعل رواد المنصات، تغير ذهب في الطريق الخطأ للأسف عند طالبي الشهرة!
هذا التغير الخطأ يوضحه أكثر الكاتب الإيطالي جيوفاني زيكاردي بمقال في صحيفة لاريبوبليكا في حديثه عن طالب يخبره عن حقيقة التعامل الجديد مع مصائب الآخرين، فلو أصيبت سيدة بسكتة قلبية - يقول الطالب اليافع - «سأهرع لمساعدتها وأنا أصورها لأنشره على اليوتيوب، لكن التسجيل الذي أنقذها فيه من الموت سينال أربعة آلاف مشاهدة، لكن سيجلب أربعة ملايين مشاهدة لو تركتها تموت!».
* كاتب إماراتي