كان الطريق طويلاً إلى المخيّم وأنا بمعية سائق تنزاني بشوش اسمه «أحمد» ورِفْقَة في الخلف من سيارة لاندكروزر بيك أب، ربما كان قتلاً للملل وتغييراً عن نواح محرّك السيارة وهو يعلو وينخفض في انعطافاتنا البطيئة لنجد مخرجاً من هذه الأحراش التي تكاد لا تنتهي، أو ربما تشاغلاً عن تلك الشبكات الكثيرة والمعلقة بأغصان الأشجار التي نمر بمحاذاتها أو تحتها والتي تعود لنوع من العناكب السامة كبيرة الحجم، والتي طيَّر منامنا ليلة البارحة دخولها في سيارة أحد الأحبّة و«عينك ما تشوف إلا النور»!

أخذت وقتاً محاولاً إيجاد موضوع قد يكون مشتركاً بيننا، لا يبدو للناظر أنّه من الطبقة المثقفة بهيئته البسيطة وسكوته الدائم ونظراته الخجولة التي تتهرّب من أعين الغرباء، وبالطبع فقد نجح الغربيون في وضع صورة نمطية للمثقف الذي تشرئب له الأعناق، وهو أن يكون أبيضَ، غربياً، ببذلة متأنقة وينظر للآخرين بطرف عينه، ويناقض كل شيء يقوله سواه وحتى لو كان تذمّراً من حرارة جو أو تأففاً من مستنقع آسن سيئ الرائحة، المهم أنّه دوماً على الطرف النقيض لإثبات أنك فاشل ومخطئ من دونه!

ترددتُ حتى لا أحرجه وأنا أود معرفة مستواه الدراسي لأجد أرضية معقولة لمستوى نقاش لا يُضايقه، وكم شعرتُ بالإحراج وهو يجيبني بتواضع بأنه يملك شهادة جامعية في الأحياء والحياة البرية، قبل أن يسترسل في حديثه عن بلاده وسهولها وغاباتها التي يكاد يحفظها عن ظهر قلب هنا في محمية «سيرينغيتي» و«نجورو نجورو» وما جاورها، تكلم عن وطنه الذي تقاتل عليه البيض الآتون من البعيد للنهب والسرقة عند حضورهم والـمُقسِّمون والـمُفرِّقون حينما يُجبرون على الرحيل، فأجبر البريطانيون الألمان على الخروج من تنزانيا بُعيد الحرب العالمية الأولى قبل أن يقوموا بمكافأة أصدقائهم «البيض» الآخرين والقادمين من بلجيكا بمنحهم طرفها الشمالي الغربي وهو رواندا وبوروندي «هدية ما وراها جزيّة» بصوت الشيخ مفوَّز في المسلسلات البدوية!

كانت الابتسامة تغمر وجهه وهو يتحدّث عن خصوصية وطنه، لم يكن يقطع عليه حديثه إلا صرخات ربعنا في الخلف «حوه حوه» حينما يجعله الحماس يضغط دواسة البنزين أكثر فيتحوّل «البيك أب» إلى قطار الموت بمدينة ملاهٍ، كان يفتخر بأن بلاده بها جبل كليمنجارو أعلى جبل في القارة الإفريقية، وبها بحيرة فيكتوريا أكبر بحيرة في القارة أيضاً وبحيرة تنجانيقا وهي أعمق بحيرة في إفريقيا وبها تنوّع فريد من الأسماك لا يوجد في سواها، وشلالات نهر كالامبو قرب حدودها مع زامبيا وهي ثاني أعلى شلالات مستمرة في إفريقيا وهي فوق ذلك أكثر دولة تعداداً للسكان في العالم فيما جنوبي خط الاستواء بما يتجاوز 61 مليون نسمة!

أتذكر ابتسامته قبل أن يُعلِّق على كذبة موقع ويكيبيديا بأن ثلثي السكان من المسيحيين، مؤكداً أن المسلمين يشكلون 52 % تقريباً والمسيحيين 38 % والبقية أديان وعقائد مختلفة، كنت في ذاك الوقت أُقدِّم رجلاً وأؤخِّر أخرى حتى ينتقل الحديث لأمر أكثر إلحاحاً، فكلنا يحب وطنه ويتغزَّل به، سواء كان مملوءاً بغابات يتربّص بك سَبْعٌ لالتهامك في أي لحظة أو عنكبوت «فاضي شغل»، أو كنت في ثلوج تجعل رئتك تعلن حالة الطوارئ من التجمّد، أو صحراء ملتهبة يبكي من حرِّها حتى الضب!

«تجربة رواندا رائعة ورائدة في قدرة الأفارقة على التطور واللحاق بدول النخبة»، يُهدئ من سرعته وهو يستجمع أفكاره للرد عليّ بينما تنفّس رفاقي في الخلف الصعداء بعد دقائق من القفز اللااختياري، فاجأني بسؤاله: «لماذا يجب أن نكون كالأوروبيين؟»، ثم أكمل كأنّه كان ينتظر الفرصة للفضفضة: «نحن سعداء هكذا، من قال إننا نريد ناطحات سحاب ومجمعات تجارية كبرى؟ لقد كان الأوروبيون والأمريكان يصفوننا بأننا شعوب قليلة الفهم لا تعرف إلا الرقص والاقتتال في ما بينها» يسكت قليلاً قبل أن يضغط دواسة البنزين وتعلو صيحات «الربع» في الخلف وهو يجيب عن هذه الفرية: «إنْ رَقَصْنَا فنحن نرقص على أرض أجدادنا، فما الذي يُزعجهم؟ أمّا الفهم فنحن أصبر الناس وأكثرهم تعقلاً في تعاملنا مع الغرب الذي ينهب خيراتنا ليل نهار، وأمّا الاقتتال فلا يوجد بيننا ما لم يُشْعِل جَذْوَته المستعمرُ الأبيض مهما ارتدى من أقنعة هذه الأيام»!

يتوقف الحديث الممتع وقد وصلنا إلى وجهتنا، يتقافز «الربع» كأنهم لم يُصدِّقوا أنهم تخلّصوا من سياقة أحمد، بينما مرّت ببالي الحكمة الإفريقية القديمة وهي تصف حالي بعد سماع كلامه: «إلى أن تستطيع الأسود أن تحكي قصصها، فإنَّ حكايات الصيد سوف تُمجِّد الصيَّاد»!