يقدم الكاتب، بوصفه ذاتاً واحدة، نصه إلى عدد كبير من القراء، والقراء ليسوا عدداً. إنهم كيفيات متعددة.

القراء، مواقف وثقافة، ومستويات معرفة، وذهنيات متعددة، وانتماءات أيديولوجية. إذاً نحن أمام نص لكاتب واحد من جهة، ولا حصر له من القراء على اختلافهم الذي أشرت إليه سابقاً، من جهة ثانية.

كتبت مرة نصاً شعرياً نشرته في أحد المواقع الثقافية بعنوان (كينونة وعدم)، ثم قمت مشاركاً بنشره على صفحتي في «فيسبوك»، فقام «فيسبوك» بحجبه بزعم أنه ينتهك معايير مجتمعنا. ثم نشرته ليس نقلاً عن الموقع، فلم يحتج «فيسبوك» وأبقاه.

ثم جاءت التعليقات على النص متنوعة..

حين يكون النص حمّال أوجه، يخلق لدى القارئ احتمالات القراءة، يكون النص قد احترم خيال القارئ، ومده بحرية اكتشاف المعنى.

فالنص الذي يدعو القارئ للصعود إليه هو النص الجدير بالقراءة، أما النص الذي يبقي القارئ في المكان نفسه، فهو النص ذو العمر القصير، لأنه خلو من المعاني الممكنة.

يسألني: من هو سليل الشمس؟ وأجيبه: تخيل معي كائناً مولوداً من رحم الشمس وأورثته صفاتها. كم تحتاج هذه الجملة إلى التأويل. لأنها تنطوي على ممكنات عدة للمعنى.

بهذا المعنى، فقط، تجعل الكتابة الحقة القارئ مؤلفاً.

لكن المشكلة لا تكمن في قراءة النص التأويلية، والشعر، كما هو معروف، أكثر صنوف الإبداع عرضة للتأويل، بل تظهر المشكلة في موقف القارئ المسبق من الكاتب نفسه ونصوصه التي تنطوي على رؤية ورؤيا.

لا شك بأن نصوص الفيلسوف أكثر النصوص عرضة للقراءات المنحازة المتعددة، ولهذا كتبنا في كتابنا عن ابن رشد نقول:

«أن يكون الفيلسوف عرضة لتأويلات متنوعة بل ومتناقضة فهذا أمرٌ يعود إلى أشكال القراءة التي يسمح النص لنا بها وبأن نختلف حولها. ولكن هناك فرقاً بين تحليل وتأويل فلسفة فيلسوف معين بدواعي الفهم والتفسير، وبين توظيف الفيلسوف توظيفاً أيديولوجياً وتعسفياً.

فالاستناد إلى ابن رشد لتأكيد شرعية الانحياز إلى المادية أمرٌ مصطنع جداً، لاسيما إذا كانت النزعة المادية حديثة أو معاصرة. والقول إن هناك توافقاً بين تعريف ابن رشد للمادة وتعريف لينين مسألة تلغي تاريخية الأفكار وشروط إنتاجها.

هذه القراءة لابن رشد التي سادت في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته لم تكن إلا قراءات أيديولوجية، والقراءة الأيديولوجية ليست سوى تطويع النص قسراً لفكرة مسبقة في الذهن.

وأسوأ أنواع القراءة تلك التي تذكرنا بذهنية معلم المرحلة الابتدائية القديم القاسي والصارم.

كان معلم المرحلة الابتدائية في الخمسينات والستينات في بلادنا ذا سلطة مطلقة على الأطفال في الصف. إذ يدخل وبيده العصا أولاً، يفتش عما كان يسمى «الوظيفة»، وهو واجب، على التلميذ أن يقوم به في البيت، ويكتبه في دفتره، ويُظهره للمعلم، ثم يضع الأخير تقديره على الدفتر بقلمه الأحمر: ضعيف جداً، وضعيف، ووسط، ولا بأس، وجيد، وجيد جداً، وممتاز، وممتاز جداً، وتفوق.

هذه الذهنية حاضرة اليوم في عالم المواقف النقدية من النصوص والأفكار، حتى لدى المنتمين إلى فضاء ثقافي فكري مشترك، وليست هذه الذهنية حاضرة فقط عند من عاشوا تجربة المعلم أو المدرس، بل عند من تربوا على هذا النمط من التقويم.

إني لأشارك النقاد قولهم: القراءة إعادة لكتابة النص. أما وضع العلامات فهي ذهنية نفي الآخر.