في مرحلة ما من مراحل حياتنا، غالباً ما تكون مرحلة الطفولة أو الشباب، نقابل أناساً يسدون إلينا معروفاً. هذا المعروف يحدث فارقاً في حياتنا أو يحقق لنا أمنية. هؤلاء الأشخاص يبقون في ذواكرنا، ويبقى ما أسدوه إلينا ديناً في رقابنا. هذا الدين قد ينساه الكثيرون، لكن ثمة أناساً يسددون هذا الدين لآخرين تضعهم الأقدار في طريقهم، هؤلاء الناس نادرون.
في مجلة «المختار من ريدرز دايجست» الأمريكية، التي صدرت النسخة العربية منها عام 1943 عن دار «أخبار اليوم» في مصر، ثم ألغي ترخيصها لتصدر بعد ذلك عن جريدة «النهار» في لبنان، وردت هذه القصة التي يرويها كاتبها، والتي سأحاول تلخيصها.
كان الكاتب في السابعة من عمره، وكان يهيم غراماً بمتجر المستر جونز لبيع الحلوى الموجود على قارعة الطريق. هناك عبر النافذة المطلة على الشارع كان يقف ليرمق العالم السحري بالداخل. لم يكن يملك المال اللازم لشراء ما يريد، فهو من أسرة فقيرة، ويعرف أن أسعار هذه الأنواع من الحلوى تفوق قدرته، لكنه كان يملك الحلم، إلى أن جاء اليوم الذي اعتقد فيه أنه ادخر ما يكفي.
اقتحم المحل، فدقّ الجرس الصغير المعلق بالباب ينبه مستر حونز أن هناك زبوناً. خرج الرجل العجوز الذي يضع عوينات تنزلق على قصبة أنفه، وتأمله وهو يجفف يده في منشفة، وسأله:
- ماذا تريد أيها الرجل الصغير؟
اتجه الصغير إلى قطع الجاتوه، وأشار لها بثقة:
- أريد خمس قطع من هذه.
ابتسم الرجل العجوز ودس يده في قفازين وانتقى للفتى بعض القطع التي طلبها، وهو يتلقى التعليمات: «لا أريد التي عليها قشدة كثيرة.. لتكن الشوكولاته».
في النهاية أغلق العجوز علبة صغيرة ونظر للصبي متسائلاً، فأشار إلى التماثيل المصنوعة من الشوكولاته:
- أريد هذا القط.. وهذا الحصان.. أريد هذا القصر الصغير. هل هذه عربة؟ ضعها لي.
قال مستر جونز في شيء من الحذر:
- هل معك نقود تكفي هذا كله؟
- نعم.. نعم.
انتقى بعض حلوى النعناع، وكان هناك الكثير من غزل البنات الذي ما زال ساخناً، فانتقى منه كيسين، واختار بعض الكعك. في النهاية صارت هناك علبة كبيرة معها كيس كبير امتلأ بالأحلام، وسأله مستر جونز:
- هل هذا كل شيء؟ سأحسب.
هنا مد الصغير يده في جيبه وأخرج قبضة من البلى الملون الذي يلعب به الأطفال ووضعه في يد العجوز، وقال في براءة:
- هل هذا كافٍ؟
لا يذكر الكاتب التعبير الذي بدا على وجه مستر جونز. ما يذكره هو أنه صمت قليلاً، ثم قال بصوت مبحوح وهو يأخذ البلى:
- «بل هو زائد قليلًا.. لك نقود باقية».
ثم دس بعض قطع العملة في يد الصبي، ومن دون كلمة حمل الصغير كنزه في يده وغادر المتجر.
لقد نسي هذا الحادث تماماً. فيما بعد غادرت الأسرة المنطقة وانتقلت إلى نيويورك.
الآن صار كاتب المقال شاباً في بداية العمر، وقد تزوج فتاة رقيقة، اتفق معها أن يكافحا ليشقا طريقهما. كان كلاهما يعشق أسماك الزينة، لذا اتفقا على افتتاح متجر لبيع هذه الأسماك. في اليوم الأول انتشرت الأحواض الجميلة في المكان، وقد ابتاعا بعض الأسماك غالية الثمن، وكما هو متوقع لم يدخل المتجر أحد. عند العصر فوجئ بطفل في الخامسة من عمره يقف أمام الواجهة وبجواره طفلة في الثامنة. كانا يرمقان الأسماك في انبهار، وفجأة انفتح الباب وتقدمت الطفلة وهي تتصرف كسيدة ناضجة.. حيّت الكاتب وزوجته، ثم قالت:
- أخي الصغير معجب بالأسماك.. لذا أريد أن أختار له بعضها.
قال لها إن هذا بوسعها بالتأكيد، لكنه شعر بأن هناك شيئاً مألوفاً في هذا الموقف، متى مر به من قبل؟ لعله واهم.
اختارت الطفلة مجموعة من أغلى الأسماك، وعند الدفع مدت يديها في جيبها وأخرجت قبضتيها مليئتين بحلوى النعناع، وبعثرتها على المنضدة أمامه، وسألته ببراءة:
- هل هذا كافٍ؟
هنا شعر بالرجفة، وتذكر كل شيء. قال للطفلة بصوت مبحوح وهو يجمع حلوى النعناع ويضعها في الدرج:
- «بل هو زائد قليلاً.. لك نقود باقية».
دس في يدها الصغيرة بعض قطع العملة، وغادرت المحل مع أخيها. عندها وثبت إليه زوجته، وصاحت:
- هل تعرف ثمن الأسماك التي أخذتها هذه الطفلة؟ إنه يقترب من خُمس رأسمالنا.
قال لها وهو يرقب الصغيرين يمشيان تحت شمس الطريق:
- أرجو أن تصمتي. لقد كان هناك دين يثقل كاهلي على مدى خمسة وعشرين عاماً نحو عجوز يدعى مستر جونز، وقد سددته الآن.
انتهت القصة، لكن ثمة قصصاً ما زالت نهاياتها مفتوحة، لأن ثمة ديوناً لم تسدد بعد.
* كاتب وإعلامي إماراتي