مرة أخرى يطلّ هاجس تلاعب الكبار بالصغار. هذه المرة جاءت الحكاية من بريطانيا العظمى؛ حيث ملياردير العقارات الإنجليزي صاحب أحد أشهر وأجود سلسلة متاجر التجزئة والسوبر ماركت «جون لويس»، التي افتتحت فرعها الأول في شارع أوكسفورد بلندن عام 1864م.
فقد وجّه المدعي العام الأمريكي، الثلاثاء الماضي، اتهامات للويس مالك المتجر ونادي توتنهام هوتسبير بشأن تداول معلومات داخلية. حيث أبلغ موظفيه (المالكين لأسهم بالشركة) فضلاً عن المقربين منه، بمعلومات غير متوافرة لعامة المساهمين عن قراراته الاستثمارية، بل وقدم دعماً مالياً يقدر بمئات الآلاف من الدولارات ليتداولوا الأسهم بناء على تلك المعلومات التي سربها لهم. ووفقاً للائحة الاتهام تمكن لويس (86 عاماً) وشركاؤه من كسب ملايين الدولارات من تلك المعلومات «المسروقة» على حد تعبير «الفاينانشال تايمز».
ما حدث مع المتجر البريطاني، قصة جديدة، في كيفية تربص الحوكمة الرشيدة للتلاعب بالمعلومات، والإضرار بمصالح صغار المستثمرين، وسوء استغلال السلطة. فبعدما لوحظ أن الانهيارات المؤسسية والاقتصادية كانت بسبب غياب اللوائح الرادعة والشفافية جاءت فكرة الحوكمة Corporate Governance. ويرى معهد حوكمة المؤسسات CGI، أنها بدأت فعلياً في حقبة السبعينيات بالولايات المتحدة الأمريكية، في محاولة لحماية الاقتصاد من الانهيار، وحماية كبريات المنظمات من الفضائح أو التجاوزات المالية.
وقبل حقبة السبعينات، كانت مجالس الإدارة تتدخل بأريحية في قرارات الإدارة، مع إن التوجه العالمي الحديث يفصل بين المجلس والإدارة التنفيذية. فدور المجلس في الأصل مقصور على الهيمنة على المؤسسة، والتأكد من أن التنفيذيين يقومون بدورهم على أكمل وجه. وهذا ما دفع لجنة الأوراق المالية والبورصة SEC إلى وضع أطر الحوكمة اللازمة. والمفارقة أن في حقبة الثمانينيات شهدت معارضة الرئيس ريغان مواجهة ضارية ضد جهود تفعيل هذه الإجراءات.
وأنهى ذلك الخلاف مطالبات كبار القانونيين والاقتصاديين بالتريث وتقديم دراسات معمقة لتلك القوانين الجديدة لضمان حوكمة الشركات بشكل مدروس. ومنذ ذلك الحين بدأت بورصات العالم تحذو حذو الدول الغربية في حوكمة الشركات، وصار في مقدور المساهم الصغير معرفة كل القرارات الجوهرية في الشركة التي يستثمر بها، عبر الإفصاحات الدورية الملزمة. وارتفع الوعي العالمي بقوة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. وكعادة الإنجليز يحسب لهم بأنهم أول من قدموا ميثاقاً تفصيلياً للحوكمة أو ما يسمى بالمدونة القانونية (كود) يمكن أن تستأنس بها بلدان العالم.
وهذا لا يعني عدم وقوع تجاوزات مالية، فهذه طبيعة البشر، وما قصة جون لويس إلا خير مثال، ولكن هناك فارقاً بين وجود القوانين وأفضل التطبيقات التي تلزم الشركات بالإفصاح عن صحة كل خبر أو إشاعة وبين عدم وجود ذلك كله. ولذلك فإن الإنسان، إنما يحاول تقليل تداعيات المصائب، فهو لا يملك منعها، وهذه هي فكرة الحوكمة الرشيدة.
والحوكمة عموماً تدعو للامتثال للوائح والقوانين، وتمنحنا وسائل عديدة للرقابة عبر المدقق الخارجي، ودواوين المحاسبة أو المراجعة. غير أن الإفراط في الحوكمة قد يجرنا نحو تعطل المصالح، وتوتير الأجواء، وتكبيل متخذ القرار عن المضي قدماً في ما يراه مناسباً لرفعة المؤسسة وتقدمها وازدهارها. لا بد أن يكون هناك هامش معقول ومسموح من التحرك في إطار تطوير العمل بعيداً عن القيود المفرطة.
ولحسن الحظ فإن الحوكمة ليست مقتصرة على المؤسسات الكبرى فيمكن أن يطبق مبادئها وإجراءاتها من يمتلك بقالة أو متجراً صغيراً يراقب من خلال أنظمته الإلكترونية أو المكتوبة كيف تسير مجريات العمل حسب الضوابط. وهكذا تنتشر تدريجياً فكرة العمل المؤسسي المنضبط، مع تفهم لطبيعة عمليات كل منظمة والبيئة المحيطة فيها ومتطلباتها، حتى تحقق الأهداف المنشودة ولا تحيد عن جادة الرقابة المطلوبة.
وأياً كان حجم المؤسسة فإن وجود الحوكمة يدل على مقدار «الرشد» المؤسسي فيها.