في جملة شهيرة لإيدواردو غاليانو الكاتب الأورغواياني الراحل يصف بها سوء حال بلاده بعد انقلاب العسكر وتفاقم ديكتاتورية خوان ماريا بوردابيري وما آل إليه حال الناس من ضيق العيش واتساع رقعة الفقر: «نحن لا نُعاني نقصاً في الأموال، ولكن زيادة في اللصوص»!
وكأن التاريخ يُعيد نفسه، ولكن تُصبح صنيعته أشد وطئاً إن تمالأ على البلد الفاسدون في الداخل والـمُستعمرون وراء ستار من الخارج، ولن أذيع سراً وأنا أقول إنني أقصد القارة الأفريقية، فربما رأيت مثل غيري إبراهيم تراوري قائد انقلاب بوركينا فاسو وهو يتوعد الغرب وفرنسا تحديداً بعد عقود عديدة من سرقة موارد بلاده، ويعد شعبه بحياةٍ مختلفة، ثم رأيناه بعدها يُهدد الغرب من جديد إن حاول التدخل لإفساد انقلاب جمهورية النيجر، خطابيات تُثير حماس «الغلابة» ولكنها كالعادة تنكشف سريعاً ليتضح أن الناس قد أكلوا مقلباً من جديد في بحثهم عن بصيص أمل!
في هذه القارة المنكوبة حصل أكثر من 188 انقلاباً عسكرياً منذ استقلال دولها، وبلغت المحاولات الانقلابية 205 في الستين عاماً الفائتة، ولو أخذنا «حزام الوفرة» المملوء بالموارد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي فسنجد 17 انقلاباً في السودان، و7 في جارتها تشاد، ثم مع جيران تشاد: نيجيريا والنيجر بواقع 8 و9 على التوالي، ثم جاراتهما الثلاث: مالي وبنين وبوركينا فاسو بواقع 8 و8 و9 على التوالي، ثم جارتهم غانا بـ10 انقلابات، لينتهي المطاف لذاك الحزام عند غينيا بيساو بـ9 انقلابات وسيراليون بـ10 انقلابات!
لم تحدث هذه الانقلابات لولا «مكر الليل والنهار» للمستعمر الأوروبي البغيض، ففرنسا خرجت ولكنها سلبت كل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل، فأوجدت عملة بائسة هي الفرنك الأفريقي لمستعمراتها السابقة والبالغة 14 دولة، وهي عملة لا تُصرَف ولا تقبل خارج حدودها، بينما تُجبر تلك الدول على وضع نصف عائداتها السنوية في فرنسا مع شروط أخرى يستحي منها الظلم نفسه، ويهم فرنسا وبقية الفيلق الأوروبي ومعهم أمريكا بالتأكيد أن تدوم حالة «اللااستقرار» وأن ينقلب عسكري على آخر دوماً وينشغل الشعب بالبحث عن ملاذ آمن من دون أن ينتبه أن موارده تُسرَق من أجل أن تكبر كروش البيض ويعيش صاحب «الحلال» في فقر مدقع!
لنقف على حجم جريمة الغرب نستعرض هذه الأرقام: إفريقيا تملك 30% من احتياطيات العالم من المعادن، ونحو 8% من الغاز الطبيعي في العالم، و12% من احتياطيات النفط العالمية، وتحوي 40% من الذهب العالمي و90 % من الكروم والبلاتين، وبها أكبر الاحتياطيات من الكوبالت والماس والبلاتين واليورانيوم في العالم، وتمتلك 65% من الأراضي الصالحة للزراعة على كوكب الأرض، ونسبة الشباب من تركيبتها السكانية تبلغ أكثر من 40%، فكيف يعقل أن تفتقر قارة كهذه لولا البِيض؟!
بسبب الغرب تحديداً - بشكل مباشر أو عبر أذرعه وأذنابه - تخسر أفريقيا «سنوياً» ما يقرب من 195 مليار دولار عبر التدفقات المالية غير المشروعة والتعدين والتنقيب غير القانوني واستنزاف الغابات وثروتها النباتية والحيوانية بشكل غير مشروع، ولذا لا يُستغرَب على وفرة الموارد أن يكون 55% من سكان أفريقيا يعيشون تحت خط الفقر، فأوروبا «الفقيرة بالموارد» لم تَسْمَن «خدودها» وتتورّد إلا بمواصلة سرقة لقمة الأفارقة، ولكن مؤسساتها تتبجّح بأنّ 35 دولة أفريقية من أصل 46 تُصَنَّف أقل بلدان العالم نمواً، نعم نحن نسرقكم ونترككم «على الحديدة» ولكن الخطأ خطأكم بعدم النمو!
حتى لا ننسى، فإن الغرب استعبد ونقل قَسْراً قرابة 24 مليون أفريقي للعمل رقيقاً لا حقوق لهم في أمريكا، 24 مليون من أصل 100 مليون هو عدد سكان القارة حينئذ، تخيّلوا معي: استعبدوا ربع قارة كاملة! ثم اجتمعوا في برلين في 1884 مدة مئة يوم لتقسيم أفريقيا في ما بينهم، وبعدها تم استخدام المدافع الرشاشة بشكل واسع للفتك بالأفارقة وحطمت فرنسا دولة داهومي، وبريطانيا مملكة بنين وأشانتي، وأباد الألمان قبائل هيريرو وهوتنتوت، بينما قتل ليوبولد ملك بلجيكا أكثر من 10 ملايين إنسان لسرقة الكونغو!
إن مستقبل أفريقيا يبدو كئيباً، فالانقلابات العسكرية لا تتوقف، والتدخلات الأجنبية تزداد وتتنوع كل فترة، ولئن كانوا يحذرون الأفعى سابقاً فقد أتى الانقلابيون بجميع وحوش الغابة من المستعمرين، وإن من لا يملك إلا مطرقة سيرى كل الدنيا مسامير تحتاج أن تُطرَق، وكذاك كل من يملك فوهة بندقية لا تنتظر منه أن يزرع ورداً أو يُعبِّد طريقاً أو يبني جامعة، يكفي تراوري سوءاً أنه هاجم فرنسا وهو يتحدث بالفرنسية!