تفصلنا عن الألعاب الأولمبية الصيفية المقرر عقدها في العاصمة الفرنسية باريس الصيف المقبل سنة كاملة، ومع اقتراب هذا الموعد الرياضي المهم، الذي أريد له في منطلقه أن يكون عامل تقريب بين الأمم والشعوب، احتد الجدل في فرنسا وفي عدد من الدول الغربية بخصوص مشاركة الرياضيين الروس وذلك على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية.
وفي هذه الألعاب الأولمبية كما في غيرها من الألعاب والمسابقات الرياضية الدولية في مختلف الاختصاصات، تعالت الأصوات مطالبة بضرورة منع الرياضيين الروس من المشاركة وذلك كشكل من أشكال العقاب الذي طال ويطال البلد الذي صدر بشأنه حكم غربي بات ونهائي في محاكمة خلت من كل شروط المحاكمة العادلة، وذلك على اعتبار خرق الاتحاد الروسي لمقتضيات القانون الدولي.
وكانت نتيجة ذلك حرمان الرياضيين الروس من المشاركة في عدد من المسابقات أو في الحد الأدنى تغييب النشيد الرسمي والعلم الروسيين عند تقديم أو فوز الرياضيين المنتمين لبلد ما زال حتى إشعار آخر عضواً في منظمة الأمم المتحدة.
وما تمت معاينته في هذا الجدل الدائر رحاه في بعض الدول الغربية هو الغياب التام لركن أساسي من أركان النقاش الموضوعي المثمر وهو وجود الرأي والرأي الآخر، واقتصار الأمر على استعراض من جانب واحد لرأي أحادي إطلاقي لا يقبل القسمة وتبرير ذلك بفكرة ظاهرها حق وهي أن «المصلحة الاستراتيجية للغرب الليبرالي هي ضمان علوية القانون الدولي وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ضد الطموحات التوسعية الروسية».
ويعيد هذا الجدل إلى الأذهان المحاولات الغربية المتعددة لإقحام السياسة في المحافل الرياضية وهي محاولات بدأت مع تنظيم الألعاب الأولمبية في ألمانيا في 1936، حينها قال رئيس اللجنة الأولمبية الأمريكية أفري بروندج في معرض رده على المطالبات بمقاطعة الألعاب على خلفية اضطهاد النظام النازي لفئة من الرياضيين لاعتبارات دينية، «إن الركيزة الأساسية للنهضة الأولمبية الحديثة سيتم تقويضها إذا سمح للدول بتقييد المشاركة بسبب الطبقة أو العقيدة أو العرق».
وفي سنة 1980 قاطعت الولايات المتحدة الأمريكية ألعاب موسكو الأولمبية على خلفية الغزو السوفييتي لأفغانستان وهي مقاطعة لقيت تجاوباً مع بعض الدول الغربية الأخرى بما هدد جدياً استمرارية هذه الألعاب العريقة.
وانطلقت الألعاب الأولمبية الصيفية في أثينا العاصمة اليونانية عام 1896 حيث أصبحت تنظم بانتظام كل 4 سنوات ولم يتوقف تنظيمها إلا سنوات 1916 و1940 و1944 بسبب الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ويكاد التاريخ يعيد نفسه بمناسبة أولمبياد باريس الصيف المقبل بعد المطالبات المتكررة بضرورة منع الرياضيين الروس والبيلاروس من المشاركة في الألعاب.
وما يعاب على دول الغرب الليبرالي هو سياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع مختلف قضايا العالم، سواء تلك المتعلقة بالمسائل القيمية كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، أم مسائل الاحتلال وقضايا التحرر.
وقد يكون الوقت حان كي يفهم العقل الليبرالي مجسداً في الولايات المتحدة وبعض دول القارة الأوروبية العجوز، أن الأمم والشعوب في أغلبها، لم تعد قابلة بالمعيار الأحادي الغربي في تصنيف الدول والمجتمعات، وهي بالتالي رافضة لاعتبار معيار الديمقراطية الغربية كموديل وجب على الجميع الاصطفاف وراءه.
ولا يبدو أن الموديل الذي «بشرت» به العولمة الغربية ما زال محل إجماع دولي وهو ما قد يفسر موجة المد القومي في عدد كبير من الدول التي تطالب بنظام عالمي جديد غير خاضع للهيمنة الأمريكية والغربية عموماً.
وحتى داخل الكثير من الدول الغربية ذاتها يمثل مد وتوسع تأثير اليمين المتطرف ردة فعل ضد جوانب الحيف في منظومة اقتصادية واجتماعية وسياسية ليبرالية غير متوازنة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً بدا أن المواطن الأمريكي خاب أمله من عولمة تهيمن عليها دولته ولا يجني من ثمارها شيئاً، ويتجه لذلك هذا البلد المحوري في المنظومة الليبرالية إلى إعادة هيكلة جذرية للمنظومة السياسية على أسس قد تقلص مكانة قيم ليبرالية العولمة إلى حدودها الدنيا.
وبالعودة إلى الجدل حول أولمبياد باريس الصيف المقبل فإن مظهره هو دعم الديمقراطية والحريات والدفاع عن القانون الدولي ولكن جوهره هو القضاء على كل أشكال الاختلاف.