مهما بلغ الإنسان من الحرص ومرّت حوله الدروس الكثيرة في معترك الحياة وظنّ أنّه نال قدراً كافياً و«واقياً» وافياً من المعرفة، سيجد نفسه وقد أُخِذ على حين غِرَّة وتعثّر دون أن ينتبه إلى أنّ التعثّر كان أقرب مما يتوقع، لذلك كلما وجدتُ نفسي في ذات الموقف تقمّصتُ دور سعيد صالح في مدرسة المشاغبين وهو يقول: «أنا عارف كل حاجة بس مدكِّن»!.
للأندلس معي قصة طويلة ورحلة عشقٍ وأُنسٍ لا تنتهي. لا تمر أيام أو أي فصل من فصول السنة إلا وخطواتي تذرع حي البيازين بغرناطة أو تجوس أزقة الحي العربي القديم في قرطبة والذي سُمِّي زوراً وبُهتاناً بالحي اليهودي، أو تمر بقنطرة رندة أو تقف شاخِصةً للبحر الذي أتى منه فاتحو الخير والنور والعدل على أسوار قصبة ملقا. تجوالٌ لا يستدعي بكاءً على الأطلال، ولكن افتخاراً بما صنع أجدادنا هنا، وبحثاً عن أسباب لمعان نجمنا ذات يوم ثم ذهاب ذاك الضوء تحت جحافل الظلمات الآتية من الشمال بقلوب أقسى من الحديد وصدور لا تحمل إلا الغِل والحقد!
تعرفتُ إلى كثيرين منهم الدون كارلوس، عجوزٌ إذا تحدث لا يتوقف، كعادة الإسبان حتى لو لم تكن تفهم شيئاً مما يقول. ربما كان من أكثر الغرناطيين الذين يملكون مزارع أغلبها كان للزيتون في السابق، لكن الربح الآتي من زراعة العنب والذي يدخل في إنتاج الكحوليات أكبر من زراعة الزيتون، ولعدم سماح القوانين المحلية بزراعة الكروم على حساب أشجار الزيتون اضطر أن يبحث عن مشترين لمزارع «الزتونات»، كما يقول إخوتنا الفلسطينيون، ليتسنّى له شراء المزيد من مزارع العنب، ويسّر الله لي شراء إحدى المتخلَّص منها في السهول الشمالية لغرناطة، فاكتملت أدلة الحب لمدن الأجداد!
اللافت أنني لم أجد شبكة ري بها، وكذاك الحال في الكثير مما حولها من المزارع والتي لا يفصل بينها أي نوع من الأسوار، بمعنى أنّه من الواجب أن تعرف حدود مزرعتك «بصرياً». وتملّكني الإعجاب وكارلوس يخبرني -من خلال مترجم طبعاً- أنها مزارع «بَعْلية» لا تحتاج إلا لمياه الأمطار فقط، وفي شهر سبتمبر تستأجر سيارة مخصصة لهز جذوع الشجر وجني محصولها في قرية قريبة تسمى «غوطة كوغوياس» والتي توجد بها «معصرة» لتحويل ثمر الزيتون إلى زيت عالي الجودة مع خيارات كثيرة لنوعية الزجاجات أو العُلب للتعبئة.
أخذتني الأحلام بعيداً، وأقنعت أحد الأحبة بشراء محصول الموسم الأول والذي يقارب 14 ألف غالون والذي وافق مشكوراً وهو ينصحني بأن أستغل قيمة المبيعات لشراء المزارع المجاورة حتى تصل الكميات المنتجة لرقم كبير فعلاً يجعلني في مصاف «بارونات الزتونات». ثم مرت الأيام وأخذت صديقاً لزيارة قصر الحمراء صباحاً ورؤية المزرعة الميمونة عصراً عندما تنخفض درجات الحرارة اللاهبة. يقول خبراء الإدارة «عِد قليلاً وانتج كثيراً»، لكنني رفعت سقف طموحاته للغاية ونحن نسير في ذاك الطريق الترابي حتى وصلنا بُغيتنا. وبدلاً من أن يرى صاحبي أشجاراً تنوء بثمارها وجد «قاعاً صفصفاً» وأشجاراً تلهث كحيوانٍ عَطِش لا تحمل من الثمر شيئاً!
«عين ما صلّت على النبي»، والحقيقة أن كارلوس لم يخبرني أنّ إقليم الأندلس لم يشهد مطراً في هذه النواحي منذ ثلاث سنوات وهذه السنة الرابعة. ثم صُدِمت وأنا أسمع وزارة الزراعة الإسبانية وقد خفّضت توقعاتها لموسم الحصاد هذا العام من مليون طن إلى 700 ألف طن ثم أخيراً إلى 680 ألف طن، والسبب يعود لموجة الحرارة العالية للغالية التي ضربت الجنوب الإسباني والجفاف الشديد الذي يَذْكُر الخبراء أنّه أسوأ من كل موجات الجفاف في الألفية السابقة، ما تسبّب في ذبول وسقوط زهور الزيتون بدلاً من انعقادها لتصبح ثمراً. كنت أمشي مصدوماً بين أشجاري البائسة وكأنها تقول: «تبغي زيتون بعد»!
ذهبت الصفقة مع صديقي أدراج الرياح، وفشلت في العثور على شركة لتمديد شبكة تنقيط لأن أغسطس عند الإسبان الجنوبيين تحديداً هو شهر الكسل التام، ولا بدّ من الانتظار حتى سبتمبر حتى يُعيدوا فتح محلاتهم، لكن ما من حيلة أخرى بعيداً عن وعود كارلوس «الحولاء»، فما يأتي بسهولة لا يدوم، وما يدوم لا يأتي بسهولة ولئن كنت أجنح لتهدئة بالي بمقولة ونستون تشرشل: «النجاح هو الانتقال من إخفاق إلى آخر دون أن تفقد حماسك»، فإن عقلي الباطن يشدّني أكثر لمقولة عرّاب الجودة الشاملة إدوارد ديمنغ: «في الله وحده نثق، أمّا البقية فلا بدّ أن يأتوا لنا بأرقام».. «أنا عارف كل حاجة بس مدكِّن!».