انتشر الفلسطينيون في مختلف الأقطار العربية قبل وبعد نكبة 1948، واتجه الكثير منهم إلى دول الخليج العربية تباعاً للإقامة والعمل في مختلف المجالات، وعلى رأسها المجال التربوي. وعلى حين جذبت السعودية والكويت وقطر العدد الأكبر، فثمة عدد جيد توجه إلى عُمان لم تجذب سوى قلة قليلة منهم.
وكان أول فلسطيني يفد إلى عُمان للعمل هو ابن القدس إسماعيل الرصاصي الذي سنخصص هذا المقال للحديث عن حكايته الشيقة المتقاطعة مع فصول من التاريخ العماني المعاصر، خصوصاً وأنه تمكن سريعاً من تبوء مناصب في الدولة، فانتقل من مدرس إلى مدير مدرسة، ثم وزير، فسفير، ومناصب عديدة أخرى، معاصراً عهود ثلاثة من سلاطين عُمان ، ومواكباً جل التطورات السياسية والاجتماعية التي شهدتها السلطنة.
ومن محاسن الصدف أن كتاباً موثقاً من 423 صفحة عن سيرته صدر قبل فترة وجيزة تحت عنوان «الوالي إسماعيل» من إعداد الباحث د. محمد حمد العريمي، بعد أن زوده نجل الرصاصي الوحيد «إياد» بالمواد والوثائق والرسائل والصور النادرة.
ولد إسماعيل خليل الرصاصي بالقدس في 28 فبراير 1902، وبها نشأ وترعرع وتلقى مبادئ القراءة لدى كتاب داخل «مسجد سعد وسعيد» بالقرب من الشيخ جراح، ثم التحق بمدرسة روضة المعارف الأهلية/الحكومية وتخرج فيها حاصلاً على الشهادة الابتدائية.
بعدها التحق هو وأخوه يعقوب بالمدرسة السلطانية الحكومية الثانوية التي أنشأها الأتراك، لكن كان من رأي والده أن يلتحقا بدار المعلمين التي افتتحت هي الأخرى في العهد التركي. وبعد أن درس الرصاصي وأخوه هناك لمدة سنتين اندلعت الحرب العالمية الأولى، فأغلقت الدار وتم استدعاؤه للجندية.
غير أن تقهقر الأتراك في الحرب واحتلال الإنجليز لفلسطين سارع في تحريره من عبء الخدمة العسكرية، ليقرر الرجل تجربة حظه في العمل التجاري من خلال دكان صغير في القدس برأسمال قدمته له والدته، لكن الدكان تعرض للسرقة ففشل المشروع، الأمر الذي دفعه للعودة إلى مقاعد الدراسة عبر الالتحاق بكلية دار المعلمين الجديدة التي افتتحها الإنجليز خارج سور القدس بطاقم تدريس مصري سنة 1916.
وفي عام 1919 تخرج الرصاصي في كليته فطلب في العام التالي أن يعين مدرساً في بئر السبع، حيث كان لعائلته بعض الأملاك، وعلى مدى السنوات الأربع التالية تنقل كمدرس وكمدير مدرسة من بئر السبع إلى غزة والمجدل واللد.
المنعطف الأهم في حياته حدث عام 1927 حينما اختير للذهاب إلى مسقط للعمل في المجال التربوي. وبالفعل وصل الرصاصي إلى مسقط سنة 1928 في عهد السلطان تيمور بن فيصل (حكم عمان ومسقط من 1913 ــ 1932) بعد رحلة شاقة بدأت من القدس إلى حيفا بالقطار، ومن هناك إلى دمشق، ثم بالسيارات عبر الصحارى القفراء إلى بغداد، ومن الأخيرة براً إلى البصرة ومن البصرة بباخرة متجهة إلى الهند عبر مسقط التي وصلها بعد ستة أيام ليجد في استقباله مبعوثاً من الحكومة العمانية قاده إلى بيت مخصص له ولزملائه، ليبدأ مسيرته الطويلة في خدمة عمان.
كانت الوظيفة الأولى التي أنيطت به هو تأسيس وإدارة المدرسة السلطانية الأولى بمدينة مسقط. ويروي الرصاصي في مذكراته أنه شهد افتتاح المدرسة في حفل حضره السلطان تيمور بن فيصل وولي عهده سعيد بن تيمور، وأنه اشترط وقت حلوله في مسقط أن تكون مدة عمله سنة واحدة قابلة للتجديد. إذ يبدو أنه كان متردداً وقتها ولا يدري إنْ كان المقام سيطيب له أم لا.
كما يخبرنا أنه قدم استقالته من وظيفته التربوية إلى ولي العهد رئيس الوزراء حينذاك سعيد بن تيمور في 28 فبراير 1930 ثم بررها لسكرتير الأخير هلال بن بدر البوسعيدي حينما سأله عن الأسباب باستيائه من إهمال المشرف على المدرسة لجهة القيام بمسؤولياته، وأنه سحب الاستقالة في الشهر التالي بطلب شخصي من هلال بعد أن أكد له الأخير أن أي أمر يتعلق بالمدرسة يمكن مراجعته فيه مباشرة.
والحقيقة أن المقام طاب للرجل في عُمان، خصوصاً بعد أن شعر باحترام وتقدير كبار المسؤولين له لجهوده في تأسيس وإدارة أولى مدارس البلاد، ثم نجاحه في تأسيس أول فرقة كشفية مدرسية، إذ حرصت الحكومة على دعوته لحضور مختلف المناسبات الرسمية مع علية القوم، مثل دعوته لحضور حفل افتتاح أول طريق للسيارات بين مدينتي مسقط ومطرح في ديسمبر 1929، بل تعدى الأمر إلى اختيار السلطان تيمور له سنة 1930 لمرافقته مع عائلته في رحلته إلى بلدة خصب.
وفي أبريل عام 1930 حصل الرصاصي على أول إجازة له منذ وصوله إلى مسقط، فسافر من مسقط إلى القدس عن طريق البحرين ودمشق وبيروت وحيفا على التوالي.
على أن بروز الرصاصي وتعدد أدواره ومسؤولياته في عُمان لم يبدأ إلا بعد تنازل السلطان تيمور عن الحكم لابنه وولي عهده سعيد بن تيمور سنة 1932، ففي عهد الأخير الذي استمر مذاك وحتى عام 1970 قربه السلطان وجعله ضمن رجالاته ومساعديه ومستشاريه الثقاة.
وبعبارة أخرى كانت الفترة من 1932 إلى 1970 من أكثر الفترات زخماً وحراكاً اجتماعياً وإدارياً وسياسياً للرصاصي، فبالرجوع إلى ما تبقى من أوراقه الخاصة ومدوناته التي تمكن ولده إياد من الحفاظ عليها، بعد أن فقد الكثير منها إثر تعرض منزل العائلة في بيروت للخراب، نجد الرصاصي يخبرنا أنه كان يقضي إجازته في كراتشي وقت تنصيب السلطان الجديد رسمياً في يونيو 1932، فوصلته رسالة من مستشار المالية البريطاني الكابتن أولبن يقول فيها إن حكومة السلطان قررت إغلاق المدرسة السلطانية بسبب الأزمة المالية، وإن خدمته ستنتهي في آخر سبتمبر 1932.
ولهذا عاد الرصاصي إلى مسقط في أكتوبر لتصفية حوائجه وعلاقاته استعداداًً لمغادرة عمان نهائياً، لولا أن صديقه الشيخ الزبير بن علي ناظر العدلية آنذاك أشار عليه بالتريث وعدم الاستعجال، مفصحاً له عن رغبة السلطان الجديد في مقابلته شخصياً.
ما حدث بعد ذلك هو أن الرصاصي استمع إلى نصيحة صديقه وأجل فكرة الرحيل، وحينما قابله سعيد بن تيمور لأول مرة كسلطان للبلاد طلب منه البقاء لتدريس أخيه فهر بن تيمور، كما طلب منه السفر بمعيته إلى كراتشي.
كتب الرصاصي في هذا السياق: «قال لي السلطان أريدك أن تسافر معنا إلى كراتشي ونقضي مدة هناك ثم تعود معنا، فقضينا شهراً واحداً ورجعنا». بعد ذلك تعددت رحلات الرجل بمعية السلطان فرافقه إلى الباطنة على ظهور الجمال قبل أن تدخل السيارات إلى عمان. كما رافقه لاحقاً في رحلة طويلة إلى إقليم ظفار امتدت إلى 17 شهراً، كلفه خلالها بمهمة تأسيس مدرسة هناك للمرة الأولى.
وهكذا، نجد أن مكانته راحت تتعزز يوماً بعد يوم، بدليل أنه اختير ليكون ضمن 11 شخصية تم تكريمها ومنحها الوسام السلطاني في يونيو 1933 في احتفالات الذكرى الأولى لتولي سعيد بن تيمور مقاليد الحكم، ثم بدليل مرافقته للسلطان إلى بومباي سنة 1935، حيث يقول الرصاصي إن السلطان فاتحه في رحلة العودة إلى مسقط بتولي منصب رئيس المحكمة العدلية التي يرجع تاريخ إنشائها إلى عام 1919، علماً بأنه تولى رئاستها فعلاً خلفاً للشيخ الزبير بن علي بعد تعيين الأخير ناظراً للعدلية، فقام بتجديد مبناها وتحديث قوانينها واستمر كذلك إلى حين إلغائها في أواخر عام 1939.
ويقول الشيخ حمود بن سالم السيابي في كتابه «بروة استدعاء لمطرح» إن السلطان وضع الرصاصي على رأس المحكمة؛ لأنه كان إدارياً جيداً ويجيد الإنجليزية، حيث إن المحكمة كانت تستقبل قضايا أطرافها من الأجانب.
علاوة على ما سبق، رافق الرصاصي السلطان سعيد بن تيمور مجدداً إلى الهند وكشمير في يناير 1937، ناهيك عن اختيار السلطان له لمرافقة أول بعثة تعليمية عمانية إلى الخارج، وكانت وجهتها بغداد، وكان من ضمن طلابها فهر بن تيمور، وثويني بن شهاب، والأديب (لاحقاً) عبد الله محمد الطائي، وحفيظ الغساني، وحسن محمد الجمالي.
في الفصل الثالث من كتاب «الوالي إسماعيل» يتحدث المؤلف عن جملة من الأحداث التي كان الرجل شاهداً عليها وعدد آخر من المسؤوليات التي أنيطت به منها: حضوره افتتاح المدرسة السعيدية بمسقط عام 1936، وخروجه إلى الباطنة سنة 1940 للتفتيش على الولايات بأمر من السلطان، وخسارته لرئاسة المحكمة العدلية بعد حلها من أجل العودة إلى النظام القضائي الشرعي السابق، وتعويضه بمنصب والي مطرح سنة 1939، وولادة السلطان قابوس في نوفمبر 1940، وتعيينه مفتشاً على ولايات الباطنة عام 1941، وتعيينه رئيساً لولاة الباطنة في عام 1944، والشروع في التنقيب عن النفط في ظفار عام 1953، وسفره مع السلطان سعيد بن تيمور إلى المملكة العراقية عام 1955، حيث حضر لقاء السلطان برئيس الحكومة العراقية آنذاك نوري باشا السعيد، ثم سفره مع السلطان في العام ذاته إلى بريطانيا وأوروبا، وغيرها من الأحداث.
كما يتضمن الفصل تواريخ لأحداث خاصة في حياة الرصاصي مثل: ولادة ابنته إيناس وابنه إياد بمطرح في عامي 1947 و1950 على التوالي، ووفاة والده خليل الرصاصي في مطرح سنة 1954م.
وإبان توليه منصب والي مطرح، وكدليل إضافي على مدى ثقة ولاة الأمر فيه، سمح له بارتداء العمامة الصحارية فكان من بين القلائل الذين سمح لهم بذلك، كما أسندت إليه في عقد الستينات مسؤوليات إضافية أخرى إلى جانب وظيفته، فمثلاً تم تعيينه ناظراً (وزيراً) للمعارف، وبتلك الصفة ساهم في إنشاء أول مدرسة للبنات.
شكلت نهاية عهد سعيد بن تيمور ومجيء ابنه السلطان الراحل قابوس بن سعيد إلى السلطة سنة 1970، حدثاً مفصلياً آخر في مسيرة الرصاصي، حيث كتب عن هذا الحدث الكبير في تاريخ عمان المعاصر قائلاً: «سافرت في أول يوليو 1970 في إجازة إلى بيروت، وفي 23 منه وصلتنا، ونحن هناك، الأخبار بأن السلطان سعيد تنازل عن السلطة لولده.
قطعنا إجازتنا وقفلنا عائدين إلى مسقط لنكون قريبين من مجرى الأحداث». ويضيف: «فهمت من طارق بن تيمور رئيس الوزراء أن الذين كانوا مع السلطان سعيد يستقيلون، وأنه سيكون هناك وزير جديد للمعارف، لكنه قال لي لا نستغني عنك وربما هناك مكاتب تفتح في الخارج أو غير ذلك». وهذا ما حدث بالفعل، حيث أقصي من كافة مناصبه، لكن طارق بن تيمور طلب منه تأسيس وإدارة مكتب الجوازات بمسقط.
وفي أوراق الرجل ومذكراته نجده يقول إنه قدم استقالته في الأول من مايو 1971 طالباً التقاعد، وإنه عدل عن الاستقالة والتقاعد بعد أن صدر مرسوم سلطاني بتعيينه قائماً بأعمال سفارتي سلطنة عمان في كل من إيران وباكستان، حيث سافر إلى طهران لافتتاح السفارة العمانية هناك ومباشرة عمله الدبلوماسي. وفي الأول من يناير 1974 نال ترقية رفيعة، إذ صدر مرسوم بتعيينه سفيراً فوق العادة مفوضاً لدى إيران، وفي مايو من العام نفسه صدر مرسوم آخر بتسميته سفيراً غير مقيم لدى تركيا.
وهكذا ظل الرصاصي يمثل البلاد التي احتضنته كمدير مدرسة بادئ الأمر في إيران وباكستان وتركيا إلى أن انتهت مهامه، فغادر طهران عائداً إلى مسقط في مارس 1976، ليحال إلى التقاعد في مايو 1978 من بعد تكريمه بوسام النهضة السلطاني من الدرجة الثانية.
وفي 23 يوليو 1986 انتقل إلى جوار ربه في ألمانيا الغربية عن 84 عاماً على إثر عملية جراحية، فصلي عليه ودفن في مقبرة حارة الشمال بمدينة مطرح.