ليس حسداً، ولا غيرة، ولا مدّاً للنظر إلى ما متع الله به غيرنا من البشر، لكنه ما تثيره لدينا الأخبار التي ترد عن المبالغ الفلكية التي يتقاضاها لاعبو كرة القدم، والعروض الخيالية التي يتلقونها هم والأندية التي يلعبون فيها للانتقال منها، والطائرات الخاصة التي يشترطون توفيرها لتنقلاتهم، والسيارات الفاخرة، والقصور الفارهة، والامتيازات فوق العادية التي تتضمنها عقودهم.
ولأن الأرقام التي يتم تداولها في بورصة اللاعبين تفوق الخيال، فقد أخذ البعض على النجم الأرجنتيني العالمي «ليونيل ميسي» موافقته على الانتقال إلى نادي «إنتر ميامي» الأمريكي مقابل 60 مليون دولار سنوياً فقط، رغم مكانته المعروفة بين لاعبي كرة القدم، ورغم أن لعبه في الدوري الأمريكي سوف يسهم في تعزيز عدد المشتركين الجدد في البطاقة الموسمية لهذا الدوري على منصة «آبل تي في» التلفزيونية، ويرفع أسعار تذاكر المباريات التي سيشارك فيها، علماً بأن صفقة ميسي مع النادي الأمريكي تضمن للاعب الأرجنتيني جزءاً من ملكية النادي بمجرد تقاعده، إضافة إلى اقتطاع جزء من أرباح صفقة البث بين دوري «إم إل أس» ومنصة «آبل تي في»، إلى جانب نصيب من مبيعات قمصان أديداس، ومع هذا فإنها ليست الأعلى في بورصة لاعبي كرة القدم.
مالكو نادي «إنتر ميامي» متفائلون بشأن انتعاش الدوري الأمريكي بعد انضمام نجم المنتخب الأرجنتيني إليه، فقد صرح خورخي ماس، أحد مالكي النادي الأمريكي، بأن وصول اللاعب الفائز منتخب بلاده ببطولة كأس العالم الأخيرة سوف يرفع الدوري إلى مستوى آخر، ويحوله إلى واحد من أفضل دوريين أو ثلاثة دوريات في العالم.
أرقام ضخمة بالتأكيد ربما تسبب للكثيرين صدمة، وإن كانت تبدو عادية عند الذين يعملون في بورصة ساحرة الجماهير هذه، ومع هذا نقول إنه ليس حسداً، ولا غيرة، ولا مدّاً للنظر إلى ما متع الله به غيرنا من البشر، لكنها دعوة للتوقف والتفكر في ثمن المتعة التي يقدمها لاعب لجماهير لعبة من الألعاب، مقابل ثمن الفائدة التي يمكن أن يقدمها عالم أو مفكر أو كاتب أو فنان للبشرية جمعاء، وما يمكن أن يحصل عليه مقابل ذلك، رغم أن دوافع العلماء والمفكرين والكتاب والمبدعين بشكل عام ليست مادية بالدرجة الأولى، وإن كان هذا حقاً من الحقوق التي لا ينكرها عليهم أحد لقاءَ ما يبذلونه من جهد وفكر، ومقابل ما يقضونه من وقت وعمر في البحث والتفكير والإبداع، الأمر الذي يعطيهم الحق في المطالبة بالتعويض المادي والمعنوي المناسب.
نعود فنقول إنه ليس حسداً، ولا غيرة، ولا مدّاً للنظر إلى ما متع الله به غيرنا من البشر، لكنها دعوة إلى عدم المبالغة في ثمن المتعة التي تقدمها لنا بعض فئات المجتمع، بالمقارنة مع ما تحصل عليه غيرها من الفئات الأخرى.
هنا يحضرني ما قاله الفنان المصري العالمي عمر الشريف في مقابلة أجراها معه المذيع طارق حبيب في برنامج «تجربتي» التلفزيوني، عندما سأله عما إذا كان المال عنده غاية أم وسيلة، فأجاب قائلاً إنه لا يحب النقود، ويعتقد أنه لا يستحق الأموال التي يتقاضاها مقابل حفظ كلمتين يقولهما أمام الكاميرا، مضيفاً أنه غير مقتنع بأن هذه الأموال حلال، ويتصور أنها حرام (لا يقصد بالحلال والحرام هنا المفهوم الديني لهما، وإنما المفهوم السائد في الموروث الشعبي لدى المصريين وغيرهم من الشعوب). وقال إنه عندما يرى الناس الذين حوله، وفيهم العبقري والميت من الجوع، حسب تعبيره، يستغرب من الأموال الكثيرة التي يدفعونها له مقابل الدور الذي يمثله مقارنة بما يكسبه الآخرون من البشر، ولهذا فهو لا يحب أن يحتفظ بالنقود ويقوم بإنفاقها أولاً بأول، معتقداً أنها ليست رزقه، وإنما هي رزق الناس الذين حوله، الذين يجب أن يستفيدوا منها، فهو يحب أن ينفق هذه النقود كي تتوزع على الذين حوله، والذين ربما كانت هذه النقود هي الرزق الذي أرسله الله لهم من خلاله.
هذه النظرة الفلسفية العميقة التي طرحها الفنان عمر الشريف خلال تلك المقابلة التلفزيونية نتمنى أن يتمتع بها لاعبو كرة القدم، الذين يتقاضون أضعاف ما تقاضاه عمر الشريف طوال حياته، ولا ينفقون منها على من حولهم، مع استثناء البعض منهم، مثل اللاعب المصري محمد صلاح، واللاعب السنغالي ساديو ماني، اللذين عُرِف عنهما مساعدتهما للآخرين، ومساهمتهما في الأعمال الخيرية.
مرة أخيرة نقول: ليس حسداً، ولا غيرة، ولا نظراً لما متع الله به غيرنا من البشر، لكنها نظرة إلى ثمن المتعة التي يقدمها هؤلاء اللاعبون، مقابل المبالغ الفلكية التي يتقاضونها والامتيازات التي يتمتعون بها.